بين الفكرة الملهمة العميقة والفكرة الغثة المضحلة إذا شاء أن يمضي في هذه المطالعة ويواصل المجهود إلى النهاية.
أما التربية فغايتها ومثلها الأعلى، في رأي الأخوان، هما الغاية والمثل الأعلى اللذان كانا لها في القرون الوسطى حينما كانت الأديرة والكنائس وما إليها هي معاهد التثقيف الوحيدة في أوربا. ولعلك تعلم ان نظرية القرون الوسطى هذه هي أن هذه الحياة دار فناء، والآخرة دار بقاء، فالسعيد السعيد هو الذي كانت حياته عدة وسلماً يرقى عليها مبراً من كل وزر إلى دار البقاء. واليك ما يقوله الإخوان في هذا الشأن، وان لم يكن صريحا في الدلالة على قصدهم كل الصراحة، قالوا:
(وأما رتبة الإنسانية التي تلي رتبة الملائكة، فهي أن يجتهد الإنسان ويترك كل عمل أو خلق مذموم ويكتسب أضداداها من الأخلاق الجميلة حتى يكون إنسانا خيراً فاضلا. فإذا فارقت روحه جسده عند الموت صارت ملكا بالفعل، وعرج بها إلى ملكوت السماء، ويرى أخوان الصفا - كما رأى غيرهم - أن الطفل صحيفة بيضاء قابلة لكل ما يطبع عليها من تأثيرات. ومتى لوثت هذه الصحيفة مرة أو سودت كان من الصعب جلاؤها وإماطة السواد عنها (لانه إذا كتب فيها شيء حقاً كان أم باطلا فقد شغل المكان ومنع أن يكتب فيه شيء آخر ويصعب حكه ومحوه)
لهذا فالإخوان لا يطمعون في إصلاح المشايخ الهرمين (الذين اعتقدوا من الصبي آراء فاسدة وعادات رديئة وأخلاقا وحشية. فأنهم يتعبونك ولا ينصلحون، وان صلحوا قليلا فلا يتعلمون. ولكن عليك بالشباب السالمي الصدور الراغبين في الآداب المبتدئين بالنظر في العلوم
وهم يحددون واجبات المتعلم والمعلم تحديداً صريحاً إذ يقولون: (ان ما يحتاج إليه المتعلم من الأخلاق الجميلة والخصال الحميدة هو فصاحة اللسان والتواضع للمعلم والتعظيم له ومعرفة حقه. أما المعلم فواجب عليه الشفقة على تلاميذه وعد الضجر من إبطاء فهمهم، وقلة الطمع في اخذ العوض، وقلة المنة عليهم)
ويدرك أخوان الصفا ما لفعل الوسط والقدوة من أثر في تربية الطفل فيقولون:
(وأعلم أن كثيراً من الصبيان إذا نشأوا مع الشجعان والفرسان يتخلقون بأخلاقهم ويصيرون