للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ومنذ أن قال امرؤ القيس أقواله الفاحشة في المرأة، ونظم الفرزدق وجرير الشتائم والسباب، وقال أبو نواس وبشار وأضرابهما في معاني الشذوذ والضعف الخلقي، وامتلأ العصر العباسي الثاني بالتفنن في تسجيل الصور الدنيئة من حياة الإنسان كما يتمثل في يتيمة الدهر (قاموس الأدب الداعر الوقح!) - منذ ذلك كله تحول ذوو الطبائع الجادة وعشاق الحكمة والمشغولون بالحق والجمال الأصيل إلى وجهات أخرى في الحياة غير وجهة الأدب والاشتغال بمحصوله

لماذا يتكلم الناس؟ أللإبانة عما في نفوسهم؟ أم لإخفاء ما فيها كما يقول (تاليران) الخطيب الفرنسي المشهور؟

أنا مع تاليران كما دلتني مواقف كثيرة كنت أقرأ فيها على الوجوه وأشعة العيون غير ما يقول اللسان. . . وقد قرر عمر بن الخطاب أن مع التفاصح النفاق حين حبس الأحنف بن قيس مدة لما رأى من فصاحته ولَسنه فخشي أن يكون وراءهما نفاق، ثم تبين له شذوذ القاعدة في الأحنف فأطلقه. وقد دلتني على ذلك أيضاً ألاعيب صناع الكلام والمفتونين فيه الذين يكفرون بالحق لأجل كلمة، ويغيرون معايير الطبيعة لأجل قافية، ويخسرون صداقة الفضيلة لأجل سجعة أو نكتة!

ولو كنت ذا وصاية عامة على تهذيب الناشئين لكانت مهمتي تتلخص في تربيتهم على الاقتصاد في الكلام ما وسع الصمت وعلى التفكير فيه وحديث النفس به قبل إعلانه على تلك الآلة الصغيرة الخطرة: اللسان أو القلم!

التفكير التفكير، وارتياد طريق الكلمة قبل تسجيلها بالصوت أو المداد، وبعث الكشافة من شعور النفس وفروض السامعين أو القارئين، والإتيان بجديد إن كان المقصود بالبيان هو (الأثر الفني) وترك الآثار مدة حتى تختمر وترجع النفس وافرة وتقر الأخلاط الثائرة وتذهب فتنة ابتداء القول والإعجاب به كما يقول الجاحظ، وكما أشار العماد الأصفهاني إلى طبيعة الإحساس بالنقص في الأثر البياني من صانعه بعد مرور حين من الزمان. . .

لا يعني الشاعر المتأمل أن يتكلم بقدر ما يعنيه أن يتأمل! وإن لذة الخلوص إلى النفس، والشعر النفسي الذي ترسله الروح بحوراً لا قيود لها ولا تكلف ولا كذب ولا ألفاظ بها قراءة آثار الغير وقراءة الدنيا بدل الإملاء عليها. . . ليست أقل من لذة الكلام وإظهار ما

<<  <  ج:
ص:  >  >>