يأخذ عنه الحديث، وهذا يلقن منه التأويل، وهذا يسمع منه الحلال والحرام، وهذا يحكي له الفُتيا، وهذا يتعلم الحكم والقضاء، وهذا يسمع الوعظ، وهو في جميع ذلك كالبحر العجاج تدفقا، وكالسراج الوهاج تألقا. ولا تنس مواقفه ومشاهده في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند الأمراء وأشباه الأمراء بالكلام الفصل واللفظ الجزل. . . الخ
وأما قبور الصالحية التي ذكرها ابن بطوطة كمالك بن دينار وسهل ابن عبد الله فلم نجد عند القوم خبرا عنها. وأما قبر أنس ابن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم فعند وادي السباع بعيد عن المدينة.
فصلنا عن مدينة الزبير فرأينا على بعد قبة منفردة في البرية وعرفنا أن تحتها ضريح طلحة بن عبد الله أحد الصحابة، وقد قتل في واقعة الجمل أيضاً. ثم مررنا بمأذنة مفردة ليس بجانبها بناء فقيل إنها مأذنة مسجد علي رضي الله عنه. وكان هذا المسجد في وسط المدينة. وكان مسجداً عظيماً بقي وحده بعد خراب البصرة القديمة ورآه ابن بطوطة وقال إنه من أحسن المساجد وصحنه متناهي الانفساح، مفروش بالحصباء الحمراء التي يؤتى بها من وادي السباع، وفيه المصحف الكريم الذي كان عثمان رضي الله عنه يقرأ فيه لما قتل
ثم دخلنا مدينة البصرة وهي على ثمانية أميال إلى الشمال والشرق من البصرة القديمة التي تم خرابها في أوائل القرن الثامن الهجري وخراب البصرة يضرب به المثل
ولله ذكر تحيط بالداخل إلى البصرة! إنها ذِكَرُ الفتح والتعمير الإسلامي. إنها ذكر العلوم والآداب العربية. هنا ولد النحو وعلوم اللغة؛ هنا أبو عمرو بن العلاء والخليل بن أحمد وسيبويه والأصمعي ثم الحريري؛ وهنا بشار وأبو نواس؛ وهنا أئمة المعتزلة إبراهيم النظام وأبو الهذيل العلاف؛ وهنا نادرة الزمان أبو عثمان الجاحظ. هنا إخوان الصفاء الذين دونوا خلاصة الفلسفة الإسلامية، وهنا المربد حيث كان يجتمع الشعراء والفصحاء فيستمع الناس ويقضون لمتكلم على آخر. هنا أنشد جرير والفرزدق وغيرهما.
سألت أين المشان قرية الحريري التي كان بها نخله الكثير فقيل لا يزال اسمه معروفاً شمال البصرة فأنشدت ما كتبه سديد الدولة ابن الأنباري إلى الحريري:
سقي زرعي الله المشان فأنها ... محل كريم ظل بالمجد حاليا