الحكومات المتعاقبة مدى أعوام. وكان شتريزمان سياسيا وافر البراعة، استطاع أن يقود ألمانيا خلال هذه الغمار الكثيفة بذكاء وجلد، وان يحررها من كثير من فروض معاهدة الصلح، وكانت مسألة مسئولية الحرب التي سجلت على ألمانيا في معاهدة فرساي واتخذت أساسا لفرض التعويضات والمغارم الفادحة علها موضع الجدل المستفيض، وكانت الوثائق والمذكرات والبحوث المختلفة في ألمانيا وإنجلترا وأمريكا تلقي عليها الضياء تباعا، ويبدو للرأي العالمي شيئا فشيئاً ان القول بمسئولية ألمانيا وحدها عن إثارة الحرب، نظرية خاطئة مغرضة، فكان الأساس الذي بني عليه إلزام ألمانيا بتعويضات الحرب ينهار شيئا فشيئاً، وبذا أعيد النظر في مسألة التعويضات وسويت لأول مرة بمشروع داوز ثم بمشروع يونج، وكانت ألمانيا تظفر في كل خطوة بتخفيضات وتسهيلات جديدة، ولكن المغارم التي بقي على ألمانيا أن تؤديها لبثت مع ذلك فاتحة تحطم موارد أغنى الشعوب. وفي سنة ١٩٢٥، انتهت جهود شتريزمان الجلدة إلى عقد ميثاق لوكارنو بين ألمانيا وفرنسا وإنجلترا وإيطاليا وبلجيكيا وبه ضمنت سلامة فرنسا وحدود ألمانيا الغربية كما قررتها معاهدة الصلح ضمانا متبادلا تشترك في تأييده كل الدول الموقعة، أكدت ألمانيا بذلك إنها تركت التفكير نهائيا في مسألة الألزاس واللورين وصفا الأفق الدولي بذلك نوعا، ودخلت ألمانيا عصبة الأمم في سبتمبر سنة ١٩٢٦ - وجلست في كرسيها الدائم إلى جانب أعدائها بالأمس، وبدأ عهد جديد من التفاهم والتقرب من بين فرنسا وألمانيا، وكان شتريزمان رجل ألمانيا في تلك المراحل، كما كان استريد بريان رجل فرنسا. وكان كلا السياسيين العظيمين يؤمن بقضية السلام وعقد الوفاق والتفاهم بين الأمتين. واستمرت هذه السياسة حتى توجت بظفر جديد لشتريزمان: هو حمل فرنسا على الجلاء عن مناطق الرين المحتلة في خريف سنة ١٩٢٩ قبل الموعد الذي حددته المعاهدة. وكان ذلك آخر ظفر للسياسي العظيم، إذ توفي بعده بقليل في أكتوبر سنة ١٩٢٩
وكانت وفاة شتريزمان خسارة فادحة لألمانيا إذ فقدت بذهابه اعظم سياسي أخرجته بعد الحرب وضربة جديدة لسياسة الوفاق والتفاهم التي جرت ألمانيا عليها مدى أعوام وجنت ثمارها كما تقدم. وقد حاول الساسة الذين خلقوا شتريزمان في تولي مصاير ألمانيا مثل فون ملير زعيم الحزب الاشتراكي الديمقراطي ثم بريننج، ان يتابعوا سياسته ولكن دون نجاح.