للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وأسفر الصبح فركب وجماعة من أصدقائه مركبة أقلتهم إلى المحطة وقد تلاقى هناك نفر من أهل المدينة جاءوا يحيونه فما رآهم حتى وقف على سلم العربة وأطل عليهم وقد شحب لونه وتندت عيناه فقال: (أي أصدقائي؛ لن يستطيع أي رجل لم يكن في مثل موقفي هذا أن يدرك ما يخالجني من الحزن لدى هذا الرحيل. إني مدين بكل شيء لهذا البلد ولكرم أهله؛ ولقد لبثت فيه من عمري ربع قرن وتدرجت فيه من شباب إلى رجل مسن. . . هنا ولد أبنائي وهنا دفن واحد منهم؛ وهأنذا أرحل ولست أدري ما إذا كنت عائداً إليكم بعد اليوم. . . أرحل وأمامي عمل هو أعظم من ذلك الذي ألقى على كاهل وشنجطون، ولا نجاح لي ما لم أصب معونة الله الذي كان معه أبداً. . . ولئن ظفرت بهذه المعونة فلن أخيب. فلنأمل في حسن المنقلب مخلصين واثقين في الله الذي هو معي ومعكم والذي يكون منه الخير في كل مكان، وإني حين أكلكم إلى عنايته كما آمل أن تكلوني إليها في صلواتكم أقرئكم وداعاً حارَّا. . .)

وانطلق به القطار وقطرات المطر تنزل على رؤوسهم الحاسرة كأنها دموع منصبة من السماء، ولكم التقت ساعتئذ تلك القطرات بما فاض من المآقي. . . ورحل أبراهام ليعود بعد جهاد شديد ومراس فإذا هو شهيد تمزق الجراح جثته

وقضى في رحيله إلى العاصمة اثني عشر يوما. وعلم الناس بهذا الرحيل، فكانوا يلقونه في المدن التي يمر بها مرحبين، وقد تلاقت جموعهم على نحو لم تشهده البلاد من قبل، فما في الناس إلا من ملكه حب الاستطلاع؛ وكثير منهم كانت تدفعهم المحبة إلى هذا اللقاء

وكان قد عقد النية أن يظل صامتاً إلا ما يكون من تحية يرد بها على ما كان يلقاه من تحيات؛ ولكن إصرار الناس في كل مكان على أن يسمعوا حديثه جعله يتحلل مما اعتزم؛ ثم إنه - دون أن يعرف التظاهر أو الغرور - رأي أن هذه كانت آخر فرصة يتحدث فيها إلى عامة الناس، وهم الذين يعول عليهم ويطمع أن يتخذ منهم ظهيراً فيما هو مقدم عليه من كفاح

وكانت له في خطبه أثناء ذلك المسير خطة رشيدة؛ فقليلاً ما كان يبرم أمراً أو يقطع في المسائل القائمة برأي؛ وإنما كان يشرح الأمور حتى تستبين، ثم يتساءل عن أوجه الصواب تاركاً الناس يتدبرون حتى تأتيهم البينة، تتمثل ذلك في مثل قوله في أنديا نابولس: (أي

<<  <  ج:
ص:  >  >>