حبه بالحياة والكون، وان تتسرب إلى هذا تجاربه وتأملاته في الحياة ما دامت النفس الإنسانية وحدة لا تقوم الحواجز بين أجزائها ومكنوناتها. فتتألف من ذلك كله فلسفة، يحسبها السطحيون بعيدة عن الحب والغزل لأنه لم يكتب عليها لافتة (يافطة) تقول: (هنا عاطفة!)، ولأن الحب عندهم هو ذلك الظمأ والطوى، الذي لا يبعد كثيراً عن الحس الساذج القريب، ولأنهم ذوو نفوس ضيقة ناضبة لها وتر ضئيل.
وليس في غزل العقاد ولا في شعره كله هالات وظلال، (مما قد يكون جميلا في شعر آخرين ليست لهم هذه الطبيعة) وليس هو ميالا للرمزية - وبخاصة كما يصورها بعض أتباع هذا المذهب في هذه الأيام - واليقظة والوعي الدقيق، والانتباه الصارم، لا يناسب هذه الرمزية ولا يستريح إلى الإيغال فيها إلا بمقدار.
ومثل العقاد في هذا كمثل الجهاز السليم الدقيق، يرصد الكواكب والسدم، فيدركها واضحة محدودة عما حولها، فعلام تكلفه أن يظهر لك الصورة ظلالا وأشباحا، وهو يرى أضواء وشخوصا؟ ألأن جهازا آخر مختلا أو ضعيفا، أو على عدسته غشاوة يسجل تلك الظلال والأشباح؟
نعم قد يظهر لك في بعض الأحيان غشاوات وسحبا، لأن هناك سدما غير واضحة في ذاتها - لا في عدسته - وهنا تكون الرمزية الصادقة التي تكنى لأنها لا تملك التصريح، وتسجل الغشاوة لأنه لا سبيل إلى الوضوح
على أن هناك سبباً آخر لسلوك العقاد هذا المسلك في الإحساس بالحياة والتعبير عنها في وضوح دقيق، ذلك هو فلسفته العامة عن الحياة
فالعقاد ليس من الشعراء الذين لا يجدون في هذه الحياة المنظورة جمالا فيعمد إلى التوشية والتظليل ليداري العيوب ويخلق المحاسن المتخيلة الغامضة؛ أو يتركون هذه الحياة كلها، ويرسمون من الخيال حياة أخرى يغشيها الضباب والدخان، وتزينها التهاويل والأطياف!
إن هذه الحياة المنظورة جميلة عند العقاد تستحق الحب والالتفات، وهي كذلك رفيعة تستحق التقديس والاحترام:
يا طالباً فوق الحياة مدى له ... يعلو عليها. هل بلغت مداها!
ما في خيالك صورة تشتاقها ... إلا وحولك لو نظرت تراها