ومن المستحسن أن نوضح ماذا يعني العقاد بالحياة المنظورة، فهو يعني بها الحياة في كنهها وذاتها، في ماهيتها كقوة خالدة، ويراها وحدة من مبدئها إلى منتهاها ويظم إليها آلامها في جهادها وأشواقها إلى غايتها، وخطواتها إلى الدوام والكمال
هذه هي الحياة التي يهيم بها العقاد - كما هي - ويراها وافية بتحقيق مطالب الخيال والأشواق؛ وليست هي حياة الساعة واليوم، أو حياة الفرد والجيل المحدود
وهذه الحياة - عنده - (روح نلمسها بيد من المادة)، ولا انفصام - بل لا اختلاف - بين القوة والمادة فيها، وقد يرهن العلم في محاولاته الأخيرة على صدق هذه النظرة بالفطرة السليمة، فما الذرات التي تتألف منها المواد إلا كهارب موجبة وسالبة ينشأ من تعادلها وجود المادة في الحس، وليس ما يعرف في الطبيعة (بالمقاومة) إلا قوة تعارض قوة ايتهما زادت طاقتها تغلبت وظهرت
ومن هنا ينشأ احترام العقاد للجسم في عالم الجمال، أو ما اصطلحنا على أن نسميه (جسما) وهو طاقة من قوى الحياة تتمثل فيها للحس، وتلمس باليد. ولهذا فحين يبلغ الحس غايته يجعل من المحسوسات أرواحاً، ويحيل المتع كلها روحية علوية:
ما نعيم يمنح الك ... فَّ غذاء المهجات؟
تقصر الألباب عنه ... وهو بعض اللمسات
في يدي أدعوه خصراً ... تارة أو زهرات!
في فمي أدعوه ثغراً ... تارة أو قبلات!
والسماء والأرض - على هذا - متقاربتان في الحياة. أنظر إلى الحياة في قيودها وضروراتها فأنت منها في أرض جاثية. وانظر إليها في آمالها وأشواقها، فأنت منها في سماء طليقة. وهي هي الحياة في أرضها وسمائها وحدة لا تتجزأ، مقبولة الأعذار، مغفورة الزلات، محبوبة المباهج، مرموقة المناظر، لأنها الحياة!
ومن شأن هذه الفلسفة ألا تلجأ إلى الألغاز والمعميات، ولا إلى الأشباح والخيالات، ولا إلى الظلال والغشاوات، إلا حيث يكون هذا كله جزءا من كنه الحياة وقبساً من طبيعتها. وذلك لأنها تواجه الحياة بخيرها وشرها، وتعترف بهذا الخير والشر كمزاج أصيل لها، وتدرك ما فيها من جمال حقيقي موجود، لا غاية بعدها لوهم ولا لخيال