ويقول في قصيدة بعنوان: (المغنم المجهول):
يا من عليه تلهفي وتلددي ... قد جرت فلتهنأ بأنك جائر
وأريتني ما لا ترى، ووهبتني ... ما لست تملكه. فما لك شاكر
محضتني سرَّ الحياة وسرُّها ... خاف عليك: جليله والضامر
أن الضياَءُ يرى العيونَ ولا يرَى ... والحسن يوقظ وهو غاف سادر
فلئن بخلت بما ملكت فحسبنا ... ما لست تملك. فهو عندك وافر!
أنسيتني نفسا وقد أذكرتني ... نفسا. خيرهما التي أنا ذاكر
لكشفت باطنها فقد أنكرتُها ... لما بدا منها القرار الغائر
فامنح وصالك أو قلاك فإنني ... راض بتلك الحالتين وصابر
وهنا أيضاً شاعر يتغزل، ويقول في أول هذه القصيدة ما ينتظر من شاعر مثله في الحب والجمال، ووصف هجر حبيبه وما يبعثه في نفسه من إحساس، ثم يتيقظ إلى ما أثاره هذا الحب في نفسه - مع الحرمان - وأنه وهبه ما كان مخبوءا عنه في أطواء نفسه، لا يعلم حتى هو بوجوده، وأن هذه الهبة لا يملكها الحبيب الهاجر، لذاته ولا لصاحبه، وأنها مغنم جليل يعوض عن المتاع والوجدان.
وندع العقاد نفسه يعبر عن هذه الأماني أدق تعبير حين يقول:
(إذا اعتلجت بالنفس عاطفة قوية أثارت رواكدها، واستفزت رواقدها، فانكشف للإنسان من نفسه ما لم يكن يعرف، واختبر من قواه وطباعه ما كان خافيا عنه، فصحح نظره في الحياة، وتغيرت بين يديه حقائق الأشياء فرآها كما ينبغي له أن يراها، لأن معرفة النفس مقياس معرفة الوجود، ومن أخطأ تقدير نفسه لم يصب في تقدير ما حوله، لأنه يقيس الأشياء بمقياس مختل مجهول
(والحب أقوى العواطف وأعمقها تفتيشاً في النفس. فهو ينبه فيها الإعجاب والعبادة والبغض والألم والغيرة والاحتقار والشفقة والقسوة، وكل ما تشتمل عليه من حميد الخصال وذميمها؛ فإذا وقف الإنسان على حقيقة نفسه، وقف على كل حقيقة يتاح له الوقوف عليها. وكان الجمال له معلماً يستفيد منه ما لم يعلمه الجمال نفسه، ومنعما يهبه ما لا يملك! كالشموس والأقمار التي تضيء للعين المنظورات، وهي بلا عين تبصر أو نفس تشعر.