للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

نفسه وفكره تجعله جميعاً يتنبه إلى خصائص نفسه وخصائص من يحبه، ويلمح الفروق الواضحة بينهما التي يؤلف منه الحب وحدة ونظاماً! ثم تدخل في المضمار فلسفته العامة ونظرته إلى الحياة قيودها وطلاقتها، ضروراتها وأشواقها، فيتألف من ذلك كله غزل ناضج فريد على غير مثال

ومن حق الأدب علينا أن نشرح هذا كله في تلك الأبيات يعجب العقاد في حبيبه بالجمال، ولكنه لا يقف عند هذا الذي يدركه كل شاعر - إن أدركه هو على نحو خاص - فإنما يعجب فيه باغترار الصبا، والإدلال على الأيام إدلال ظافر، والبشاشة التي لا تفرض وجوداً لعبوسة الحياة

وإلى هنا يمكن أن يصل شاعر ممتاز. ولكن ما يعجب العقاد في هذا هو معنى أبعد وأرقى. إنما يعجبه من هذه الغرارة والبشاشة، غلبة الحرية على الضرورة في هذا الجميل، وغلبة الفرح الطليق على الانقباض الحبيس، وغلبة البشاشة الراجية على العبوسة اليائسة

ثم يلقى نظرة أخرى على هذين القلبين اللذين جمع بينهما الحب، فإذا أحدهما يضحك والأتراح حوله جمة، وثانيهما يبكي وأفراح الحياة حوله كثيرة، وهي مفارقة من مفارقات القدرة الخالقة في الحب، التي تهزأ بالظواهر والأشكال وتمزج بين العناصر أبعد ما تكون طبيعة وكنهاً. ويلتفت من هذا إلى أثر هذا المزاج العجيب، فإذا قلبه المرهوب بما فيه من آلام وجماح، وقد غدا مروضاً مذللاً بهذا القلب الآخر المشرق البشوش، فصار مأموناً لا يرهب، كما تشاهد الضواري موثقة فتكون مسلاة، وكانت وهي طليقة تبعث الرعب والفزع

ثم ينتهي من هذا إلى أحسن تعبير عن اطمئنان صاحبه إليه، والتذاذه بكشف مجاهل نفسه وغياهبها، في ظل الحب وحراسته وأمنه فيدعوه أن يجول في هذا القلب الوعر المرهوب ليستمتع بمشاهدة الخطر المأمون، ويعلم أن الشمس لا تكشف إلا الدنيا الظاهرة، وأن ليس غير الحب يكشف أعماق القلوب

مثل هذا لن يفهمه من يفهمون الغزل لهفة ودموعاً، أو فرحة واستمتاعاً؛ ولن يفهمه بطبيعة الحال من يريدون عواطف الحب قالباً مصبوباً من غزل العذريين أو البوهيميين في الشعر العربي المحدود. ولكنه أحق القول باسم (الغزل) وأدخل قول في العاطفة اليقظة المشبوبة، المنيرة بالحب حتى تكشف ما حولها، وتضمه بجناحيها

<<  <  ج:
ص:  >  >>