يبدو لنا أمل في نجدة قريبة، وأنا قد عشت أكثر مما عاش، وسيقضى كلانا نحبه فليس بضائري أن يبقى بعدي ساعات؛ وهب ناساً أدركونا وأنقذونا فان الباقي من عمري دون الذي مضى وانقضى، وهو على كل حال شيخوخة وتهدم، وأمراض وعلل، وأوصاب وعجز، فما حرصي على ذاك؟ ولكن هذا صغير ولا يزال أمامه شباب طويل وريف، فهو أولى بالحرص على الحياة والتعلق بها وأحق بذلك مني، وقد أكره أن يرى أثرتي وقبحها وشناعتها، وأخاف أن يعرف ذلك عني بوسيلة ما، فأناوله الماء وأجود عليه بالخبزة الناشفة، وأتظاهر بالرحمة، وأتكلف الإيثار وأقول له: إنك ابني وفلذة كبدي، فبقاؤك استمرار لحياتي وامتداد
وفي الدنيا عشاق مجانين غير قليلين وقد يهم الواحد منهم بالانتحار إذا ضنت عليه حبيبته بابتسامة أو أعرضت عنه في مجلس، أو أبت عليه قبلة وضمة. خذ هذا العاشق الولهان، المدله، المزدهف اللب، المشغوف القلب، وأجلسه إلى جانب حبيبته المعبودة في البرد القارس والمطر المنهمر، وأنظر ماذا يحدث؟ أتظن أنهما يتناجيان في تلك الساعة بحبهما؟؟ أتراه يشتهي حينئذ أن يقبلها أو يضمها، أو يبالي ابتسامها أو إعراضها، أو يحفل ما يكون من ذلك منها؟ بل سل نفسك أيخطر له الحب وهو ينتفض من البرد والمطر ويرعد؟؟ وقد يندفع بحكم العادة فيخلع سترته ويضعها على كتفي المحبوبة المعبودة، ولكنه لا يفعل ذلك إلا وهو كاره له، وساخط عليه، وناقم على الضرورة التي تدفعه إلى ذلك. ويزداد البرد مع طول الجلسة، ويعانيان منه ما لا طاقة لهما به، فلا يبقي لهما هم إلا في هذا وفيما يمكن أن يصنعا لاتقاء عواقبه، أو النجاة منه، ويذهب الحب وتذهب دواعي الانتحار، وتهبط قيمة ذلك كله إلى الصفر. فليت العشاق الذين يسلب الحب عقولهم، يكابدون شيئا من هذه المكاره ليعلموا أن في الوسع أن يقل احتفال المرء بابتسامة حبيبته، وتفتر الرغبة في ضمها وتقبيلها، بل إن في الوسع أن يحيا بغير هذه الحبيبة، ولا يفكر فيها، ودع عنك الانتحار من أجل قبلة أبتها عليه!
وهذه الشجاعة ماذا هي؟ إن الأصل في الإنسان الجبن لا الشجاعة، لأن غريزة المحافظة على الذات تقضي بذلك، ولكنه يتشجع، ويحتمل التعرض للمكاره أو المعاطب، ويلقي بنفسه في التهلكة، مرغما، فقد يكون الذي يفر منه شرا مما يرمي نفسه عليه، أو يكون في