هذا، ولو كانت هناك مساوئ في بعض شؤون المجتمع، وهي مساوئ لابد من وجودها، ينم عليها ما بين شؤون المجتمع وأموره من تباين وتناقض، فالعادة ولاشك قد لطفت كثيراً من حدتها، وأصلحت الشيء الكثير منها، وجعلتنا نتحاشى منها ما لم يكن في الإمكان تحاشيه بمهارتنا. أضف إلى ذلك أن احتمال هذه الأمور - على ما فيها من مساوئ - أيسر من تغييرها. وما مثل ذلك إلا مثل الطرق التي تسير بين منعطفات الجبال، فهي تصبح مع الزمن طرقاً منبسطة ملائمة للسير من كثرة ارتيادها، ويكون أيسر على المرء أن يسلكها من أن يحاول السير في خط مستقيم، متسلقاً النجاد وهابطاً الوهاد
غاية ديكارت في رسالته
لذلك لا أستطيع مطلقاً أن أفهم تلك الطائفة من الناس ذات الأمزجة الثائرة، والعقول الحائرة؛ تلك الطائفة التي لا تنفك تفكر في أن تدخل على شئون المجتمع شيئاً من التقويم والتعديل، وذلك رغماً عن أن ليس لها من المكانة والجاه ما يؤهلها لذلك. ولو أني رأيت في رسالتي هذه ما يبعث على اتهامي بهذا الضرب من الجنون لكنت جد أسف، ولأحجمت عن نشرها، لأن غايتي منها لم تتعد مطلقاً ما أريده من إصلاح آرائي الشخصية، لأبني فيما بعد على أسس هي ملك لي كلها. وإذا أخرجت إلى الناس هذا النموذج من عملي، وقد راقني بعض الشيء، فليس معنى ذلك أني أدعوهم للضرب على وتيرتي، لا! فأنا أخشى اجتراء الكثيرين على ذلك، فأن إرادة النفس على التجرد من جميع ما اكتسبه قديماً من الآراء، لا يجب أن يكون مثالاً يحتذيه كل إنسان. ذلك لأن العالم يشتمل على نوعين من العقول البشرية، وكلاهما لا يصلح له هذا العمل أو هذا المثال
فالنوع الأول هو تلك العقول التي تقدر ذاتها أكثر مما هي حقيقة، فلا تتمالك من أن تتسرع في أحكامها، ولا تجد من الصبر ما يكفي لأن تقود تفكيرها بانتظام. ومن هنا ينتج أنها إذا منحت نفسها حرية الشك فيما تلقنته من المبادئ، وحادت عن الجادة العامة، ولو مرة واحدة، لم تعد تستطيع أبداً الاهتداء إلى الطريق التي يجب أخذها للسير في طريق قويم،