والنوع الآخر هو تلك العقول التي لها من التواضع وبعد النظر ما يحملها على أن ترى ذاتها أقل قدرة على تمييز الخطأ والصواب من بعض عقول أخرى، فهي ترى إمكان التتلمذ على هذه العقول، وهي ترى واجباً اتباع آرائها دون أن تكلف نفسها عناية البحث عما هو خير منها
أما أنا فلقد كنت ولاشك في عداد تلك الطائفة الأخيرة، لو لم أتتلمذ على أكثر من أستاذ واحد، ولو لم أطلع على ما بين آراء الفلاسفة من تباين وتناقض، في كل عصر وزمن، فلقد لمست منذ أيام الدراسة أن ليس هناك ما يمكن أن يتصوره العقل مما يدعو إلى الدهشة ويجل عن التصديق إلا ويكون قد أثر عن الفلاسفة وعزى إليهم
العرف والمعرفة الصحيحة
ولمست وأنا أتجول وأتنقل أن جميع أولئك الذين تتضارب أخلاقهم وعاداتهم مع أخلاقنا وعاداتنا ليسوا برابرة ولا همجاً لمجرد هذا التضارب، بل أن فيهم كثيرين ممن يعقلون مثلما نعقل أو أكثر مما نعقل. ولاحظت كم يكون الشخص الواحد ذو العقل الواحد إذا نشأ في وسط إنكليزي أو فرنسي مختلفاً عن نفسه، فيما لو نشأ في وسط صيني أو هندي. بل وجدت أن الزي الواحد من أزيائنا الذي كان يروقنا منذ عشر سنين، والذي ربما راقنا بعد عشر سنين أيضاً، قد يبدو لنا الآن غريباً مزرياً. وهكذا يتدخل العرف وتتدخل العادة لا قناعنا أيضاً أن ليس هناك معرفة أكيدة صحيحة
القواعد الأربع
إذاً فلم يكن في مقدوري اختيار شخص يبدو لي في آرائه ما يدعوني إلى إيثارها على آراء سواه، وبذا ألفيتني مرغماً على أن أقود نفسي بنفسي، ولكني عزمت على أن أسير متمهلاً كمن يسير وحده في الظلام، وأن أتفطن إلى كل شيء بحيث لو لم أتقدم إلا ببطء احترست على الأقل من الزلل. وقد أبيت المباشرة بنزع أية فكرة من الأفكار التي تسربت إلى نفسي عن غير طريق العقل قبل أن قضيت زمناً طويلاً في تهيئة خطة العمل الذي حملت نفسي عليه، والبحث عن الطريقة القويمة التي توصلني إلى كل ما يستطيعه عقلي