واصبح دفاعه الحديدَ الصارخ والجمر الطائر، وأداته في تذليل الأرض المكنات الكثيرة تديرها الأكف القليلة، وسقايته لها ترتبط بإرادته أكثر من إرادة الماء، وترتهن بهندسته أكثر نم ارتهانها بالأمطار والانواء، وصار علمه بزراعتها علماً غزيراً علمته إياه التجربة المقصودة والأبحاث المنتظمة، فقد أسرع الاستعمار إسراعا لم يعهده التاريخ، حتى ليُنذر بأن لا تبقى رقعة من الأرض لا تطؤها قدم مستعمر. حتى الروابط التي كانت تربط الإنسان بأرضه الأولى، فتمنعه، أن ينزح النزحة الأولى، قد هانت بسهولة المواصلات وسرعتها لانه إذا هو استبدل جديداً بقديميستطيع الآن إلى حد كبير ان يجمع بين موطن عتيق وموطن مستحدث، ويمد خيوطه طويلة ميسورة إلى سلف وراءه وخلف أمامه، ويؤلف في سهولة بين ما استدبر من أمسه واستقبل من غده
جميلٌ أن يرى الإنسان الحضارة تعم الأرض، ومعجبٌ مُزهٍ أن تلفّ العمارة المعمورةَ لفَ الهواء لها، ولكنها خسارة كبرى كذلك أن تذهب هذه الحضارة والعمارة بكل حيوان يَستْأنس، وبكل نبات لا يخضع لترويض الإنسان. لقد ضاع من أمثال هذا الحيوان ما ضاع، أو قلّ حتى إذن بالضياع، وانقرض من النبات ما انقرض، أو إذن بالانقراض وارتفعت أصوات في العصور القريبة تنبه إلى ذلك وتطلب حماية المستوحش من الحيوان، والنبات على السواء، وانعقدت أخيرا بلندن جمعية غرضها حماية الأصقاع الأفريقية الوسطى من التعمير وحفظها من عبث المدينة، وصيانتها صيانة الأثر الحي الخالد، وهي صيانة بالسلب، وحفظبالترك، فلا تكلف دينارا ولا درهما. وفي الحق كيف تجوز علينا صيانة المعابد ورعاية الهياكل والاعتزاز بصحاف من خزف ودوارق من صلصال وهي جميعا من صنع الإنسان المتحضر، فلا تزيد أعمارها عن قليل من آلاف السنين، ثم لا نصون آثارا أذهب من هذه في القدم وأبعد في العراقة من الإنسان. تلك يستعاض عنها إذا افتقدت، ويقام على أنقاضها إذا تهدمت، أما هذه فما ذهب منها فلغير رجعة، وما فني فلغير إيجاد. تلك تعيدها الصناعة، وهذه لا يعيدها إلا الخلق، والخلق ليس من عمل الإنسان.
وفوق هذا فالحيوان المستوحش والنبات البريّ، ان رثت صلتهما بالإنسان في نظام الخليقة العام. وتباعدت منابتها عن منبتة في جدول الاجناس، فان بينهما صلات قريبة وبين ما