استأنس الإنسان منهما فكل حيوان مستأنس كان متوحشا يوما ما ونحن الذين أنّسنَاه، وكل نبات كان مستوحشا كذاك يوما ما ونحن الذين ألفناه، ولا يزال يوجد في الوحشي من الحيوان والنبات أشباه ونظائر لتلك التي تعيش بيننا في رخاوة ودعة، ولكن هذه النظائر كانت قليلة فزادت قلَّة، وهذه الأشباه كانت نادرة فزادت ندرة، فإذا نحن إذنا للعمارة أن تمتد بلا حدّ فقد قطعنا آخر الخيوط الواهنة التي تربط حاضر الأحياء بماضيهم، وطمسنا في رقعة الأحياء الخانات القليلة الباقية التي فاتها الطمس، وجئنا على آخر الأدلة الحية على أصل الإنسان والحيوان والأواصر التي بينهما
متى كان تأنيس النبات وأين كان؛ ومن أول من قام به - كلها أسئلة لا يستطيع إجابتها إلا بالحدس والظن وإعمال الخيال. والخيال إذا أصاب مرة أخطأ مرارا، ولكن مما لا شك فيه أن هذا كان والإنسان في حداثته الأولى، قبل التاريخ المعروف، وقبل العصور التي سّجل أحداثها الحجر. ففي مقابر المصريين فيما قبل عصر الأسر وفي العراق في منازل عريقة في القدم. وكذلك في الحفائر عن بقايا سكان مناطق البحيرات السويسرية والإيطالية كشفوا عن حبوب من القمح في درجة عاليه من التقدم النباتي ما كان يبلغها لولا تدريب سبق، طال حتى ضاع أصله في الأحقاب القديمة وامتد إلى الوراء حتى اختفى في حلوكة العصور الأولى. ان مكتشفات الإنسان كثيرة واختراعاته الخطيرة عديدة، وكلها كان لها نصيب في تقدم الانسان، وقد تختلف في المفاضلة بين هذا المخترع وذلك المبتدع، ولكن قليل من يماري في أن أكبر اكتشاف وأخطر ابتداع ساق قدم الإنسان إلى أول الدرجات من سلم الرقيّ الذي نراه اليوم، ذلك الاكتشاف الذي امحي أصله بإمحاء الحياة الأولى، وضاع سره مع سر الإنسان القديم، ذلك إمكان تأنيس النبات - تلك الحقيقة التي فطن إليها آباؤنا الأولون من أن بعض النباتات يمكن ترويضها وتمريضها وتَنْشِئتها وهدهدتها فتعطي ثمرات كثيرة وغلاّت وفيرة تكون غذاء مأمونا مضمونا يسكن الإنسان إليه في المكان الواحد العام بعد العام؛ لا يقلقه الترحل ولا تتلاقفه السهول والجبال. تلك الحقيقة التي خلقت أولى الصناعات وأكثرها تأصلا وعراقة، تلك الزراعة التي كانت وما زالت أس المدنيات جميعها،
إن النباتات القابلة للتأنيس قليلة، وقليل من هذه ما يعطي حبا أو ثمراً يصح أن يتخذ غذاء