كما يجد الهدوء الرتيب، لا تخالجه اللهفة إلا قليلا، وهي بعد شوق إلى المتاع الطليق، أكثر منها حرقة إلى إرواء الضرورة المقيدة، أو هي طلاقة فيها سخرية المجرب الذي سلك الطريق مرة ومرة، فانجلت في نفسه الروعة وانكشف المجهول، ولم يعد أمامه إلا تأمل المشاهد وتسجيل الشواهد، والموازنة بين ما مضى وما هو آت في رحلته الحاضرة. والذي علم قيمة العرف والتقاليد ومبلغ إخلاص الناس لها أو تفلتهم منها، فلم يعد يحسب لمن في (الخارج) حسابا، وإنما همه أن يعيش في عالم من صنعه هو، يضع تقاليده وحدوده
ولهذا يلوح الشاعر في الأجزاء الأخيرة منطلقا من القيود في الإحساس والتعبير انطلاقا لا تجده في شعر شبابه، وهذا أثر التجربة وحكم السن والممارسة.
ومع العقاد وجهان أصيلان في هذه الدواوين الثلاثة، وعدة وجوه عارضة:
فأحد الوجهين هو الذي يقول فيه قصيدة (غزل فلسفي) والذي فيه (من كل شيء) في الأرض والسماء، وفي الماضي والمستقبل و (من كل موجود وموعود توأم). . . الخ
ولعل هذه القصيدة أدل القصائد على هذا الوجه الذي يشُع في نفس الشاعر كل معاني الوجود، لأن الشاعر - حينئذ - مستعد لتلقي كل أطياف الوجود، متفتح لكل معنى من معانيه
والوجه الثاني هو الذي يقول فيه:
بعد سبع من السنين وعشر ... عرف الناس فضل ذا الميلاد
عرفوا أي نعمة زارت الأر ... ض بأضعاف حسنها المرتاد
عرفوه لما رأوا بينهم شم ... ساً مع الشمس أشرقت في البلاد
عجبوا كيف فاتهم يوم وافى ... فرعوا عهده بذكر معاد
ذاك ميلادك السعيد هنيئاً ... للذي فاز فيه بالإسعاد
ويقول فيه معظم غزليات (هدية الكروان)
والخطوط التي تفرق بين هذين الوجهين صعبة التمييز لولا أن الثاني أكثر بشاشة وطراءة، والأول أشد حيوية وتأثيراً
وعلى العموم فالشاعر يبدو في هذه الفترة واثقاً من نفسه وزمنه، يترشف كأس الحب في نشوة ولذة وتأمل وتمهل، وفي بشاشة ودعابة واطمئنان