للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ورجعت أهرب من لقاك وطالما ... ألفيت عندك في الشدائد مقصدي

ما كان من شيء يزيد تنعمي ... إلا يزيد اليوم فيك تلددي

أواه من أمسي ومن يومي معاً ... والويل من طول التردد في غدي

أهب الخلود كرامة لمبشري ... أن ليس يومي في العذاب بسرمد

وأبيع حظي في الحياة بساعة ... أنسى بها عمري كأن لم أولد

وأسوم مرعى العيش غير مزود ... وأرود روض الحسن غير مقيد

يا للهول! لكلما قرأت هذه القطعة سرت رعدة في مفاصلي، وقشعريرة في كياني، وأحسست أمامي بإنسان يعتصر نفسه قطرة قطرة في ألم مبرح كظيم. وهو مع هذا يقظ متنبه لكل وخزة لا ينسى أن صبوة الأمس كانت تخفي في طياتها ضراوة الذئب الصدى، وأنها كانت تفعمه متعة، لتفعمه بعد ذلك ألماً منشؤه هذه المتعة ذاتها لا سواها

وفي يقيني أن هذا أفجع موقف مر بالشاعر، وقد لقي أياماً كثيرة من أيام الظنون، ولكنها ليست من هذا النوع المسموم؛ وما كان ليستطيع بعده أن يفارقه، وما كان قلبه ليصلح أن يوغل في الحب هذا الإيغال، وأن يأخذه بهذا الجد الصارم الذي يجعل الشك فيه دامياً تنضح منه النفس قطرات

وقد عاد إلى الحديث عن هذه (الظنون) في قطعة (الحب المريب) من الوزن والقافية والشعور! فكشف عن حالة نفسية فريدة، صور فيها كيف يحيل الشك متعة اللقاء إلى جحيم لا يعد له جحيم الفقدان، وكيف يقيم الحواجز والأبعاد بين أقرب قريبين في الوجود:

إني لفي ألمي بقربك كالذي ... يحنو على ولد مريب المولد

أبدا يغص بقربه ويبعده ... ما بين عطف أب وجفوة مبعد

وأراك طوع يدي وألبث حائرا ... بين المحاذر منك والمتودد

أرضى وأغضب، لا الرضا ببالغ ... أمن اليقين ولا الغضاب بمهتد

وأظل أسخر من رضاي وغبطتي ... وأظل أسخر من عذابي الأنكد

وأشد من برح اللقاء بلية ... تأبى الشقاء عليك غير مفند

يا هذه الدنيا أيندم باذل ... يعطي القنوط ندامة المتردد؟

جودي علي بشقوة لم ترجعي ... فيها على ندم إذا لم تسعدي!

<<  <  ج:
ص:  >  >>