للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ونستعير هنا من حديث العقاد عن (همام) في (سارة) ما نستعين به على شرح هذه الحالة التي صورها في نفس صاحبه أبدع تصوير:

(كانت شكوكا مريرة لا تغسل مرارتها كل أنهار الأرض، وكل حلاوات الحياة. كانت كأنها جدران سجن مظلم ينطبق رويدا رويدا؛ ولا يزال ينطبق وينطبق، حتى لا منفس ولا مهرب ولا قرار؛ وكثيراً ما ينتزع ذلك السجن المظلم طبيعة الهرة اللئيمة، في مداعبة الفريسة قبل التهامها؛ فينفرج وينفرج وينفرج، حتى يتسع اتساع الفضاء بين الأرض والسماء، ثم ينطبق دفعة واحدة، حتى لا يمتد فيه طول ولا عرض، ولا مكان للتحول والانحراف: بطل المكان فلا مكان ولا أمل في المكان، ووجب البقاء حيث أنت في ذلك الضيق والظلام، فلا انتقال ولا رجاء في الانتقال.

(وكان صاحبنا كالمشدود بين حبلين يجذبه كلاهما جذباً عنيفاً بمقدار واحد وقوة واحدة، فلا إلى اليمين ولا إلى اليسار، ولا إلى البراءة ولا إلى الاتهام. . . بل يتساوى جانب البراءة وجانب الاتهام، فلا تنهض الحجة هنا حتى تنهض الحجة هناك، ولا تبطل التهمة في هذا الجانب حتى تبطل التبرئة من ذلك الجانب؛ وهكذا إلى غير نهاية، والى غير راحة ولا استقرار)

حتى إذا انتهى من الظن إلى (اليقين) كان يقيناً قاتلاً دامياً كالظنون!. وهي كذلك حالة فريدة من الحالات النفسية التي تجيش بها نفس العقاد الخاصة:

مضى الشك مذموماً وما كان ماضيا ... فليتك تمسي عن يقينك راضيا

وجل عن التصديق أنك هاجر ... وأنك مهجور وأن لا تلاقيا

فلله ماذا حل بالقلب فارغوي ... وآمنت بالحق الذي كنت آبيا

وأمسيت تدري أن للود غاية ... وأن زماناً سوف يلقاك خاليا

وعشت ترى حبا كحبك ينقض ... وما خلته إلا يد الدهر باقيا

مضى غير مردود كأنك لم تكن ... بعينيك ترعاه وبالنفس فاديا

ألا لا تذكرني بصدق وددته ... على جنبات الغيب ما زال خافيا

ألا لا تذكرني يقيناً شريته ... بأنفس ما يغلو به الشك شاربا

لكذبتُ صدق الهجر لو أن موطناً ... من الشك يوماً لم أثب منه خاويا

<<  <  ج:
ص:  >  >>