للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

سل الصبح كم ماريتهُ كلما بدا ... ولم يبد فيه ذلك الوجه حاليا

سل الليل كم جافيتهُ كلما سجا ... ولم أرتقب فيه الحبيب الموافيا

سل النيل كم أنكرته كلما جرى ... ولم ألق فيه ذلك الحسن جاريا

سل الدار كم ناشدتها القرب راجيا ... وأرهفت في أنحائها السمع صاغيا

ويخدعني ما اعتدت من طول قربه ... فأحسبه عندي وقد بات نائيا

يريب فمي صمتي لياليَ لا يرى ... على خده منه نجيا مناغيا

وتنكرني كفي ليالي لا ترى ... على خصره منها نطاقا مدانيا

وتطلبه مني جفون تعودت ... على البعد أن تلقاه في الحي آتيا

ويسألنيه كل يوم وليلة ... فؤاد يراه حيثما كان رائيا

وأين؟ ولو أني قدرتُ لما غدا ... به القلب ملتاعاً ولا الجفن شاكيا

وكيف بالنسيان الأليف الذي به ... تذكره الدنيا إذا راح ناسيا

تفقده في كل شيء فما انثنى ... فآمن بعد اليأس بالبين عانيا

سل الروض مطلولا. سل القفر صاديا ... سل النجم لماعا. سل البدر ساريا

فإنك تدري كيف صدقت باسما ... إذا بت تدري كيف كذبت باكيا

وإنك لا تخشى ردى الموت بعض ما ... خشيت ردى الحق الذي لاح هاديا

وهكذا سار إلى اليقين، بعد ما طرق كل باب من أبواب الشك، فعاد منه خاويا، ولم يصر إليه مع هذا في سهولة ويسر، ولكنه أنكر الدنيا ومعالمها، وأنكرته نفسه وجوارحه. ولولا إرادة من حديد، ما ثاب إلى هذا اليقين الأليم.

علام تدل هذه الصورة النفسية الفريدة؟

إنها دليل الثروة في الأحاسيس، والانفساح في الشعور، ومظهر الحياة النفسية المهيأة للتأثر، القابلة للصوغ والإنشاء.

وهذا وذلك من ميزات المدرسة الحديثة، التي تخلص للحياة والإحساس بها، لا للأوراق وما حفظته منها

وفي ماضي الأدب العربي كله وحاضرة كذلك، لا تجد نظيرا لهذه الصور النفسية، مع شيوع الأحاسيس التي تستدعيها في كل حب قديم أو حديث

<<  <  ج:
ص:  >  >>