استملى الرافعي موضوع (المشكلة) من رسائل قرائه إليه وصاحب هذه المشكلة هو صديقنا الأستاذ كامل. . . وهي كانت أول صلته بالمرحوم الرافعي ولم يكن لقيه من قبل؛ ولقد كانت قبل أن يكتب إليه مشكلة اثنين: هو وهي؛ فصارت من بعد مشكلتهما ومشكلة الرافعي معهما إذ لم يجد لها حلا. ولقد شغلته هذه المشكلة زمناً غير قصير، ثم اتصل بموضوعها عن كثب حين اتصلت أسبابها بصاحبها وصاحبته. وقد كتب الرافعي ما كتب في هذا الموضوع، ثم مضى وخلف دنياه وما تزال هذه المشكلة قائمة تنشد من يحل عقدتها. . .
كان ذلك في الخريف من سنة ١٩٣٥ حتى جمعتني ظروف العمل بصديقي الأستاذ كامل في إحدى مدارس القاهرة؛ ولم يمض على تعارفنا أيام حتى استودعني كل السر. . .
. . . فقد أمه وهو غلام، فلم يلبث غير قليل حتى حلت غيرها محلها في بيت أبيه. وكان أكبر ثلاثة أخوة، فاقتضاه حق أخويه عليه أن يستشعر معاني الرجولة وما يزال في باكر الشباب. ورأى أبوه أن عليه شيئاً لهذا الرجل الصغير فسمَّى عليه بنت خاله قبل أن يدرك؛ ورأت تقاليد الريف الذي نشأ فيه أن عليها دوراً في هذه القصة فحجبت الفتاة عن خطيبها ولما تبلغ التاسعة وأغلقت دونهما الباب. . . ومضت سنوات وسنوات وسنوات وهو لا يراها ولا تراه، وفرغ من حسابها بينه وبين نفسه، ثم نسى ما كان وما ينبغي أن يكون؛ وكان يبغضها بغض الطفل والطفلة، فلما باعدت بينهما السنون انقطعت بينهما أسباب الكره والمحبة فلا يذكرها ولا يذكر شيئاً من خبرها. . .
وانتهى الفتى إلى مدرسته العالية وابتعد عن أعين الحراس والرقباء في القرية، فمضى على وجهة في القاهرة العظيمة يلتمس لذات الشباب. . .
وكان له فكر وفلسفة، وفيه خلق ودين ومروءة، وبين جنبيه قلب يحس ويشعر ويتأمل؛ وعلى أنه كان يهيئ نفسه ليكون من أساتذة (العلوم) فإنه كان ولوعاً بالأدب مشغوفاً بمطالعته، فكان له من ذلك روح وعاطفة ورقة؛ وكان في دمه ثورة وغليان، وكان في عقله مثال يريد أن يحققه، وكان في رأسه شِعر يحتاج إلى بيان؛ وكان له من كل أولئك قلب يتحفز لوثبة من وثبات الشباب في قصة حب؛ ثم لم يلبث أن اشتبك في الملحمة. . .
وأحبها وأحبته فما كان له من دنياه إلا الساعة التي يلتقيان فيها، وما كان لها. .