مات لي ثلاث بنين ما دخل جوفي عليهم من الحرقة ما دخل جوفي من حرقة هذه اللقمة! فلو صح أن الفالوذج كان لا يقدم إلا حارا فيؤكل فاترا لوجب تخريج ما سلف من قول السري الرفاء:(له في الحشا برد الوصال وطيبه) فيكون الوصف بالبرودة لغير حسّ الفالوذج، وإنما، هو لمعناه وأثر الالتذاذية. وإذاً يجري الكلام على أن للفالوذج في النفس من اللذة والهناءة، ما للوصال من برد في الصدر وثلج، وهو تخريج بديهأثأ، لا تأباه طبيعة البيان ولا يمس التشبيه بتشويه
وكانت هذه الحلواء هنية الريق، لينة المُزْدَرَد. وهي كذلك عريضة هفهافة الأعطاف، تستجيب للداعي بالغمزة الخفيفة؛ وبمثل ذلك يصفها صاغة الكلام، ويشهُّونها إلى الأفواه فقد سمع الثعالبي صديقه الخوارزمي يقول في وصف طعام قدمه إليه بعض أصحابه: جاءنا بشواء رشراش، وفالوذج رجراج
وقد تكون بعض جوانب الفالوذج في الجامات والصحاف أرق من بعض، فيكون ما رق منها أغبط عند الناس مما غلُظ، وأولى بالإيثار والتكرمة. حدث الجاحظ عن نفسه قال: كنت على مائدة محمد بن عبد الملك، فقدِّمت فالوذجة، فأومأ بأن يجعل ما رق منها على الجام مما يليني، تولُّعاً بي، فتناولت منه، وظهر بياض الجام بين يدي، فقال محمد بن عبد الملك: يا أبا عثمان قد تقشَّعت سماؤك قبل سماء غيرك؛ فقلت أصلحك الله لأن غيمها كان رقيقاً!
وما كنت أفهم حتى الساعة إلا أن الفالوذج كان يؤكل وحده، لا كالطعام يكون إداماً للخبز، فهو حلواء، والحلواء مكتفية بنفسها أبداً، وهو يحوي مادة الخبز كذلك في جوهره، فإن لباب القمح رأس من رؤوس أخلاطه التي يسوَّي بها. ولكن أبا العلاء في بعض تقوله اللغوية قرن الفالوذج بضرب من ضروب الخبز، فأدى إلينا الشك والتَّظَنَّي، ولا سيما أنه يعزو ذلك إلى خلف الأحمر، ومجمل الطرفة التي نقلها المعري أن خلفاً أنشد البيتين:
ألَمّ بصحبتي، وهمُ هجوع ... خيال طارق من أُم حِصْن
لها ما تشتهي: عسلاً مصفى ... إذا شاءت وحُوَّارَي بسَمْن
ثم قال لأصحابه: لو كان موضوع أم حصن: أم حفص، ما كان يقول في البيت الثاني؟ فسكتوا، فقال: وحواري بلمص، واللمص: الفالوذج، والحوَّاري خبز يكون من لباب البر،