للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

المقاييس ولا الحواجز. وحينئذ لا ترى الشطئان الجميلة، ولا الأودية الممرعة، ولا المدن الفخمة، ولا الحضارة الرائعة!

منذ أسبوع تحركت طبيعة الإنسان الأصيلة في الدولتين الدكتاتوريتين على حين غرة، فوقع العالم كله في بحران من القلق على حضارته وسلامته؛ وحاول الكتاب بالبلاغة والحكمة، والساسة بالمنطق والحيلة، أن يدفعوا وقوع الكارثة، أو يؤخروا يوم القيامة، فما رجعوا بطائل. ولم يكن ذلك لأن الخلاف بين برلين وبراغ لا يدخل في نفوذ العقل، وإنما كان لأن الذئب متى صمم على افتراس الحمل بطل كل دليل وأَبْدعت كل حجة. وإذا انفجر البركان ودوَّت حُمَمُه وسال حميمه، فمن ذا الذي يقول للطبيعة: رويدك يا أمَةَ الله! إن على السفوح وفوق السهول ملايين من عباد الله لهم حق الحياة وليس عليهم أن يموتوا ليتنفس فلكان من ضيقه في السماء، ويشتفي من غليله على الأرض؟

هذه أزهار الشباب الغضة في أوربا الجميلة تُنظم عقوداً وأكاليل لتذويها سَموم الحرب في غير ذِياد عن حرمة حق، ولا جهاد في سبيل مبدأ. فهل درى هتلر وصاحبه أن كل زهرة من هذه الزهرات بهجة بيت وسعادة أسرة؟

إن السلام العالمي يحتضر الآن بين قرع النواقيس وصلاة الرهبان ودعاء الآباء وبكاء الأمهات، والفكر الإنساني ينظر خزيان إلى كبره وهو يتطامن، وإلى جهده وهو ينهار. فهل استطاع حماة السلم وأُساته أن يحفظوه ومن ورائهم كل حي يطلب الحياة، وكل ضعيف يرهب الموت، وكل فتاة تنشد الحب، وكل أم تلعن الحرب، وكل رافه يريد الطمأنينة؟ ماذا يصنع الطب إذا انتشر الوباء، وماذا ينفع الكوخ إذا عصفت الأنواء، وماذا تغني المذاهب والقوانين والنظم إذا عارضت هوى الطبيعة؟

لا جرم أن الحرب سلاح من أسلحة الطبيعة تدرأ به عن نفسها الفضول والخمود والوهن؛ فهي نوع من التشذيب والتطهير والتنقية تصلح عليه الدنيا، ويتجدد به الوجود. والديمقراطية نظام من نظم الناس أقاموه على الحرية والمساواة، ودعموه بالفلسفة والقانون، ونشروه بالأدب والفن، وقرنوه بالسلام والأمن؛ وفي كل أولئك كفكفة لسلطان الطبيعة، فهي تحاربه بضده كما تحارب الحياة بالموت، والخير بالشر، والجِدَّة بالبلى، فتسلط عليه الطغيان المطلق في بعض الأمم، فيخضد من شوكته، ويقلل من هيبته، حتى يشك الناس

<<  <  ج:
ص:  >  >>