كانت أيضاً نهضة رجعية بدأها الساعاتي وقواها البارودي ومن أتى بعده؛ وهي كانت نهضة رجعية لأنهم رجعوا بالشعر عن طريقة البهاء زهير وابن الفارض والبستي وابن نباتة المصري وابن النحاس وخليل الصفدي: طريقة الجناس الغالب والنكات، إلى طريقة الصنعة العالية القوية صنعة مسلم بن الوليد وأبي تمام وإضرابهما. وترى هذه الرجعية ظاهرة في شعر شوقي أعظم ظهور، فقد بدأ بمدح البهاء زهير في مقدمة الطبعة الأولى القديمة من الشوقيات وأسرف في مدحه. وترى شعر شوقي في صباه مما أثبته في الطبعة القديمة بعضه أشبه بشعر المتأخرين، وأظن أنه حذفه ولم يثبته في الطبعة الحديثة؛ ثم صار شعره يقترب من نسق فطاحل الدولة العباسية أمثال مسلم وأبي تمام والبحتري.
وكان منتهى أرب الشاعر قبل نهضة البارودي وشوقي وحافظ أن يكثر من الجناس وأنواع البديع حتى ليقال إن أحدهم أفنى عمره في صنع قصيدة بديعية كبيرة شحنها بما يقرأ طرداً وعكساً، وما يقرأ من أسفل ومن أعلى، وبالجناس وأنواعه، وأشباهه من المحسنات، فاحتال عليه أصدقاؤه وسرقوها منه فمات كمداً وراح ضحية الطرد والعكس وصريع الجناس. وكان الأدباء إذا أرادوا إن يستجيدوا بيتاً أنشدوا بيت ابن نباتة المصري، ولا أذكر كلماته بالضبط، ولكنه يمدح سلطان مدينة حماه في الشام فيقول: إن (حماه)(المدينة) علمتهم نعمى الممدوح حتى غدا كل منهم يحب (حماته)(أي أم زوجه). هذه هي (مفارقات) النكات العامية المصرية التي كانت تطرب الأدباء. أو قول البهاء زهير لمعشوقته إنه دعاها (ست) أي سيدة، لأنها ملكت جهاته (الست).
فرجوع البارودي وشوقي وحافظ إلى عصر أقدم من هذا العصر لا بد أن يسمى رجعية، وليست كل رجعية ذميمة.
والنزعة الحديثة إلى التجديد هي في الحقيقة تكملة النزعة الرجعية التي نشطها البارودي، فكانت نزعة التجديد نزعة تفضيل (مبادئ) الشعر العربي الأقدم من العباسي ومن العباسي ما يقارب ذلك الشعر. وقد شرحنا تلك المبادئ. والذي غطى على هذه الحقيقة أثر الأدب الأوربي، وفتحه أبواباً جديدة من أبواب القول، وشده أزر الخيال والفكر. وغطى على الحقيقة أكثر من كل ذلك تشعب نزعة التجديد إلى فروع جديدة بعيدة كالرمزية وغيرها.
ولكنا إذا نظرنا إلى هذه الفروع وجدنا أن كلاً منها مغالاة في مبدأ من تلك المبادئ كما