فصلنا في المقال السابق؛ فالذين يريدون تغليب الوعي الباطن مثلاً إنما تفرعوا من مبدأ جعل الشعر بحثاً في صفات النفس وخواطرها وشجونها وأشجانها بدل ترديد معانٍ متفق ومصطلح عليها. ولا شك أن شعراء الجاهلية وصدر الإسلام كانوا ينظمون بالعاطفة أكثر من شعراء الدولة العباسية. ومعنى النظم بالعاطفة البحث في شجون النفس وأشجانها، فهذه الطائفة في نشأتها كانت رجوعاً إلى طريقة الشعر القديم، وإن كانت قد غالت محاكاة للنزعات الحديثة في الأدب الأوربي العصري. وبهذه الطريقة نستطيع أن نرد كل طائفة من طوائف وفروع نزعة التجديد إلى أصلين: أصل في الأدب العربي القديم غالت فيه، وأصل من محاكاة النزعات الحديثة في الأدب الأوربي العصري. فإذا تتبع الأستاذ الغمراوي الأسباب والعوامل التي أثرت في الأدب العربي الحديث وجد أنه لم تكن هناك مؤامرة على الدين والفضيلة نشأت عنها النزعة إلى التجديد؛ فإن تتبع الحوادث يُظْهِرُ كيف أن بعض أدباء المذهب القديم يقلبون (النتيجة) العارضة الثانوية المحدودة وهي الشذوذ والشطط فيجعلونها (سبب) نهضة التجديد كلها؛ وقد أوضحنا أن الشذوذ والشطط موجودان في كل عصر ومذهب وذكرنا شواهد وأمثلة.
وإذا نظرنا في تاريخ النزعات الاجتماعية والاقتصادية والفكرية والأدبية وجدنا أنها كانت مصحوبة كلها أو أكثرها بشيء من الشطط؛ وهذا الشطط إما أن يكون متعمداً لمحاربة الجمود أو الوقوف، أو غير متعمد، بل تندفع إليه بعض النفوس قهراً. وقد لا يعرف الشطط ولا يميز من غير الشطط إلا بعد عصور طويلة تمحص فيها الأمور. ولو أن كل نزعة من النزعات البشرية رفضت كلها بسبب ما يصحبها من الشطط ما تغيرت الإنسانية. ومن الحقائق الثابتة أن بعض الخاصة كانوا في كل نزعة تجديد يخلطون بين مبادئ النزعة ومظاهرها؛ وبين ما يصحبها من الشطط، حتى كانوا يحسبون أن الجنس البشري مقضي عليه بسبب تلك النزعة. فالنزعة إلى الديمقراطية في أوربا في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر كانت مصحوبة بالشطط. وحسب بعض الخاصة أنه سيقضى على الإنسانية، وأن القيود والشرائع الاجتماعية مقضي عليها بالاضمحلال، فرفضوا النزعة بأجمعها بدل رفض الشطط وحده. وهذا هو ما حدث في نزعة الإصلاح الديني في أوربا في القرنين السادس عشر والسابع عشر، أو ما حدث في