حظيرته ونحن نتابعه بأبصارنا، ونشيعه وأجراسه وراعيه وأنفاسه، ولا نزال من خلفه مسحورين حتى يتوارى عن العيون بحجاب الليل. . .
وهل أحدث أخي القارئ عن القمر، وكلنا يهوى القمر، وهيهات أن أنسى لياليه القمراء على شاطئ البحر صغيراً، أو لياليه السواحر والفلك يجري بنا في بحر النيل الجميل. لا، ولا أنسى تلك الليالي البهيجة، والقمر يفضض الطبيعة من حولنا ونحن مضطجعون على هضاب المزه الفيحاء. وما لي ولحديث القمر في الدهر الغابر، وأنا أستطيع التحدث عنه في هذا الشهر الحاضر، ذاكراً للقارئ أن أهل دمشق من أعشق خلق الله للقمر، ولو أن الدمشقي كان نباتاً لكان (عَبَّاد القمر) فلقد أخبرني عامل الزبداني عشية أمس بأن عدد المصطافين في الزبداني وحدها قد بلغ في هذا العام نحو ألف نفس يؤلفون مائتي أسرة، ولكن هذا العدد يبلغ في الليالي القمراء أضعافاً مضاعفة فيعج وادي الزبداني بالمصطافين عجيج الحجيج، ولكنهم من حجيج القمر. وتمتلئ الطريق السلطانية بين دمشق والزبداني بالسيارات الممتلئة بعشاق القمر، وتغص بهم مقصورات القطار، في الليل والنهار، وأقمار النساء تشارك الرجال في عشق قمر السماء، وكأنه لا غنى للجنسين اللطيف والعنيف عن المشاركة التي ازدادت في هذا العصر تشابكاً ووشوجاً. فهنالك التربية المشتركة والسباحة المشتركة، والسباقات المشتركة، وهنا في الوادي النزه المشتركة ليالي القمر على طريق الجرجانية وبقين ومضايا.
إن تطور المرأة من الحجاب إلى السفور فالحسور كان سريعاً جداً في مصر، ولكنه بطئ في ديار الشام، ولا تزال الدمشقية مع تعلمها وولعها بالنهضة الاجتماعية تؤثر التدين الصادق على التمدن الكاذب، والكمال والعفاف، على الابتذال والإسفاف وبعبارة أوجز إنها تفضل السفور الشرعي على الحسور البدعيّ، فلا تخلو المرأة المسلمة ولا تسافر إلا بمحرم يحافظ على عرضها وشرفها ويحول دون ما يؤذيها ويرديها
ويزداد السفور الشرعي في دمشق يوماً بعد يوم، ولا يلبث أن يسود على الحجاب أخيراً. ومن الناس من يقاوم هذا التطور الحيوي الذي لا مناص منه بالسفاه والشتائم لا بالحجة والبرهان، بيد أن من عقلاء رجال الدين من يحب للغانيات سفور الراهبات الذي لا حسور معه، ويسعى لإعادة الحاسرات إلى سفور الشرع المحتشم الذي يكفل للمرأة تعلمها وتقدمها،