إن بطن هذا الوادي المبارك ينقسم إلى قسمين شمالي وجنوبي:
أما الشمالي منه فعامر يبدو بلون أشجاره أخضر نظراً؛ وأما الجنوبي منه فجله غير مغروس ومختلف ألوانه: هذه بقعة منه محصورة تبدو صفراء فاقعة، وهذه بقعة محروثة تبدو حمراء قانية، وتلك رقعة بائرة لم تحرث ولم تزرع فهي نارنجية غير قرمزية؛ وهنالك رقعة مزروعة يضرب لون خضرتها القاتمة إلى السواد فتجتلي عين الناظر من هذه البقعة وهاتيك الرقاع مجموعة من الطنافس المحروثة والزرابي المبثوثة تستهوي الأفئدة وتقيد النواظر
إن من ينكر السحر من أهل هذا العصر يؤمن به مثلي بعد أن يرى ما رأيت من جمال إشراق الشمس على سلسلة الجبال الغربية، ثم يزداد استيلاء الضياء حتى يغمر ما تحت الشناخيب والذرى فتزداد بهجة النفس، فإذا ما بلغت الشمس أشجار الروابي المغروسة راعك مشهد سواد الأشجار مع بياض الأنوار فتخيلت النقاء الليل بالنهار عندما يتنفس الصبح في الأسحار.
وإن أنس لا أنس تلك العشية التي ذهبت فيها إلى مغارة (النابوع) تلك العين التي لا يكاد يرتوي واردها لشدة برد مائها وفرط عذوبته، وكان رفيقي الوفيق في ارتياد هذه العين العجيبة الشيخ حسن بو عياد المغربي من زعماء الإصلاح في المغرب الأقصى، وهو على رأيي في إصلاح المرأة بإصلاح تربيتها وبيئتها، ثم خرجنا من المغارة والشمس في صفرة وجه العاشق الوامق فانتقلنا من لذة إلى لذة: من نشوة الارتواء إلى نشوة الإصغاء. ماذا رأينا من مشهد فخم، وماذا وجدنا من نعيم روح، وماذا سمعنا من حسن لحن؟ مشهد لعمر الحق رائع، ونعيم روح غامر، ولحن مزمار ساحر. شهدنا فوق مغارة النابوع على سفح الجبل قطيعاً من المعزي يثير من ورائه عجاجه منتشرة، ومن أمامه هاديه وراعيه يطرب قطيعه بألحان مزماره الجبلية، كما يطرب الجيش بألحان موسيقاه الحربية، وقد امتزج أنين المزمار برنين الأجراس، وكأنما كان الداعي يهنئ بسلامة الوصول قطيعه الطروب، ويودع بلسان المزمار ملكة النهار الجانحة إلى الغروب، ولا يزال القطيع الزاحف في هبوطه حتى يبلغ قرارة الوادي فينقع ببرد الماد غليل الأحشاء، ثم يتابع سيره الهادئ إلى