والكتب ما زادني يقيناً بأن أسلوب الأستاذ كحياته صورة صادقة لسلامة الذوق ورائع الفن.
ولعلي لا أطيل عليكم إذا تلوت على مسامعكم قطعة من بيانه لم أخترها اختياراً بل اطلعت عليها اتفاقاً عندما فتحت كتابه الذي وضعه عن (أدباء حلب ذوي الأثر في القرن التاسع عشر) وهي من محاضرة له في وصف قصور الخليفة المأمون وهذه هي:
(وكان يشرف عليها الراكب في دجلة من بعد شاسع، ولا سيما قبابها، فمن مجصص بالجص الأبيض الناصع كالفضة البارقة، ومن مطلي نصفه السفلي بالأخضر الناظر والنصف العلوي بالذهب النضار، وفوقها جامات الذهب تتلامع كالشهب المتقدة، ثم تبدو للعيون تلك الحدائق الممتدة إلى أقصى مدى البصر، تنسرب فيها جداول الماء من برك عظيمة الأتساع مختلفة الأوضاع، ينصب فيها الماء كالفضة الذائبة من أفواه حيتان أو سباع أو ثيران أو نسور، من مرمر مختلف الألوان بالغ من الصناعة نهاية الإتقان بين جنات قد ازدحمت غياضها واشتبكت أشجارها وتعانقت أغصانها وامتد ظلالها، يسير فيها الداخل تحت أقبية وأطواق من فسيفساء الأوراق، في مماش كأنما أرضها خمائل سندسية، وعلى جانبيها درابزينات لا يدرك الطرف منتهاها، قد اعترش عليها الياسمين، وتعلق بها الورد والنسرين)
فهذه قطعة كتبها الأستاذ منذ عهد بعيد، وهي مشرقة الديباجة ناصعة البيان صحيحة اللغة سليمة التركيب لا تقع كثيراً على أشباها في متخير كلام العرب في الوصف الجميل.
غير أن هذه القطعة لا تمتاز بالكلام البليغ والأسلوب الصحيح فحسب، بل تمتاز أيضاً بما فيها من التأنق والعمل الفني الخالص.
فما هي العوامل التي اجتمعت فأشرق منها هذا الأسلوب الوضاح؟ عندي لهذه العوامل أصلان: الموهبة والمحيط.
فالموهبة هي القدرة الطبيعية التي تتجلى في ذوي الكفايات الممتازة.
والميحط هو الوسط الذي يعيش فيه الإنسان فيتأثر به.
والموهبة لا تثمر ثمرها إذا لم تتعهدها يد التهذيب بالإصلاح. وهي تتكيف بالمحيط ومؤثراته.
ولا خلاف في أن العلامة الحمصي من ذوي المواهب الممتازة النادرة؛ فما هو الوسط الذي