للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

طفلا في قرية من قرى الريف، وهذه الدار التي نشأت فيها شابا في حوش عطى، ثم هذه الدار التي أقمت فيها طالبا للعلم في شارع من شوارع الحي اللاتيني في باريس ولكن بشرط إلا أعود إلى الاقامة والحياة في وحدة منها، هي حبيبة إلى كريمة اثيرة عندي حين اذكرها وحين ألم بها الألمامة القصيرة اليسيرة، فأما أحب الدور إلى وآثرها عندي الآن فهي هذه التي تراها مضطربة مختاطة مملوءة بالضجيج والعجيج والصياح من كل نوع، وتراني فيها اسير سجيا بين هذه الادوات المختلطة المكدسة حولي لا أستطيع حركة ولا انتقالا لانها ستستقيم لي بعد أيام، وستحمل الي فيها ساعات الحياة من الوان العيش ما لم اذق بعد. ويكفي أن اذكر تلك الدور كلها وكيف انتقلت من احداها إلى تلك التي تليها حتى انتهيت إلى هذه الدار لتعلم اني كغيري من الناس خليق إلا امنح تلك الدور من نفسي إلا هذه الدار الذي يقترن بالذكرى، مومن يدري لعلي أن انتقل من هذه الدار التي تراها إلى دار اخرى أوثرها عليها واختصها بالتفضيل، إنما نترك في كل دار نسكنها قطعة من قلوبنا، ولكنك تعلم أن قلوبنا لا تنقص بما نفرق من أجزائها بين الدور، وإنما تكمل وتستكثر من الثروة بهذه الذكريات التي نحملها معنا إلى أن يأتي هذا اليوم الذي ننتقل فيه إلى منزل آخر لا نؤثره ولا يؤثرنا، لا نحبه ولا يحبنا، لا نسعى إليه ولا يسعى الينا، وإنما نكره عليهاكراها، ويكره هو علينا اكراها. . .

هنالك أحسست مرارة الحديث فهممت أن اتحول بصاحبي إلى حديث آخر، ولكن أمور الدار وترتيبها كفتني مؤونة هذا. الانتقال، فقد اقبل المقبلون يرفعون هذا وذاك، يتصايحون ويتبادلون بينهم الامر والنهي. قال الأستاذ لا بأس بهذا الموضوع ولكن على أن تعالجه علاجاً آخر وتعرضه عرضاً فنيا يثير الضحك ويثير الرثاء وإنما يأتي ذلك حين تقصد إليه قصد صاحب الفن وتبث فيه جزءا من اجزاء نفسك يمنحه شيئا من الحياة.

طه حسين

<<  <  ج:
ص:  >  >>