وكان هو نفسه يشعر بهذه القطيعة بينه وبين الناس، وكان له من علّته سبب يباعد بينه وبينهم؛ فمن ذلك كان يسره ويرضيه أن يجلس إلى أصحابه القليلين ليستمع إليهم ويفيد من تجاربهم، ويُحصِّل من علم الحياة وشئون الناس ما لم يكن يعلم. . .
ثم بدأ يكتب للرسالة فعرفتْه طائفة لم تكن تعرفه، وتذوْق أدبه من لم يكن يسيغه؛ وكانت الموضوعات التي يتناولها جديدة على قرائها، وجدوا فيها شيئاً يعبر عن شيء في نفوسهم؛ فأخذت رسائل القراء تنثال عليه، فأنفتح له الباب إلى دنيا واسعة، عرف فيها ما لم يكن يعرف، ورأى ما لم يكن يرى، واطلع على خفيات من شئون الناس كان له منها علٌم جديد. . . فكان من ذلك كمن عاش حياته بين أربعة جدران لا يسمع إلا صوته، ولا يرى إلا نفسه، ثم انفتح له الباب فخرج إلى زحمة الناس، فأنتقل من جو إلى جو، ومن حياة إلى حياة. . .
هي نقلة اجتماعية لا سبيل إلى إنكار أثرها في الرافعي وأدبه، وإن لم يفارق بيئته ومنزله وأهله
والآن وقد وصلت إلى جلاء هذا المعنى كما شاهدته وعاينت أثره، فأني أتحدث عن ضرب من هذه الرسائل التي كانت ترد إلى الرافعي من قرائه، ليعرف الباحث إلى أي حد تأثر الرافعي بها، وأيَّ المعاني ألهمته وقدحت زناد فكره؛ وإذا كانت بعض (الظروف الخاصة) قد حالت بيني وبين الاطلاع على كل هذه الرسائل التي خلّفها لتتم لي بها دراسة التاريخ، فحسبي ما أقرأني الرافعي منها في أيام صحبته، وما اطلعت عليه بنفسي من بعد. . .
نستطيع أن نردّ الرسائل التي كانت ترد على الرافعي إلى أنواع ثلاثة:
١ - رسائل الإعجاب والثناء
١ - رسائل النقد والملاحظة
٣ - رسائل الاقتراح والاستفتاء والشكوى
أما النوعان الأولان فليس يعنينا منهما شيء كثير، وحسبي الإشارة إليهما؛ على أنه ليس يفوتني هنا أن أشير إلى أن أكثر ما ورد إلى الرافعي من رسائل الإعجاب، كان عن مقالاته في الزواج وكان أكثر هذه الرسائل من الشبان والفتيات، وقلما كانت تخلو رسالة من هؤلاء أو هؤلاء، من شكوى صاحبها أو صاحبتها وتفصيل حاله. وأطرف هذه الرسائل