أبيها وزوجه، إنهما ينكران عليها كل شيء مما تراه هي من زينها بين الفتيات، فعلمها حذلقة، وآراؤها فلسفة فارغة، ومطالعتها عبث ولهو وسوء خلق، وفرارها بنفسها إلى غرفتها كبرياء وأنفة وتمضي السنون وهي في هذا العذاب من دار أبيها، فلا هي تستطيع أن تحمل أباها وزوجه على رأيها في الحياة ولا هي تستطيع أن تنزل إليهما، والمنقذ الذي تنتظر الخلاص على يديه من هذا العذاب لم يطرق بابها بعد، ولو أنه طرق بابها لأشاحت عنه معرضة في وجل، لأنها تسيء الظن بكل الرجال. فماذا تعمل؟
٧ - وهذا فتى مثاليٌّ يحسن الظن بالأيام ولكن الأيام تخلفه موعده: أحب فتاة من أهله وأحبته وتواعدا على الزواج، ولكن أهلها زوجوها من غيره
والتمس الوظيفة التي يؤمل أن يصل إليها بعد تخرجه، فنالها ولكن وجدها غُلاًّ في عنقه وكمامة على فمه
وطلب الزلفى إلى الله بالإحسان إلى الناس فبادلوه إساءة بإحسان وغدراً بوفاء
وكلما غرس زهرة هبت عليها أعاصير الحياة فاقتلعتها وألقتها في مواطئ النعال
وبرم الحياة وضاقت به الدنيا وما يزال في باكر الشباب. . . فماذا يصنع؟
٨ - وهذا شاب يشهد لنفسه بأنه من عباد الله الصالحين يخاف الله ويخشى عذابه: أحب فتاة من جيرته حباً (عُذرياً) وأحبْته، وبرّح بهما الحب حتى ما يطيقا أن يمضي يوم دون أن يلتقيا، ولقيته ذات مساء في خلوة بعيدين عن أعين الرقباء، وما أكثر ما التقيا في خلوة، ولكن الشيطان صحبهما هذه المرة إلى خلوتهما. . . ووقعت الجريمة من غير أن يكون لها إرادة أو يكون له. . .
. . . ولما فاءت إليه نفسه أخذ يكفكف لها دموعها وهو يبكي وكان في نيته أن يتزوجها حين ينتهي من دراسته بعد سنتين أو ثلاث، وكان صادقاً في نيته، وكانت الفتاة مؤمنة بصدقه، ولكنها لم تُطق الانتظار حتى تمضي السنوات الثلاث ولم تطق أن تراه بعد؛ وجاءه النبأ بعد ثلاثة أيام أنها ماتت محترقة. . .
وعرف هو وحده من دون أهلها ومن دون الناس جميعاً كيف ماتت. . . ومنذ ذلك اليوم تلاحقه صورتها في نومه وفي يقظته؛ ومضت سنتان منذ وقعت الفاجعة ولكنه ما يزال يذكرها كأنها كانت بالأمس، وكتب إلى الرافعي يقول في رسالته: