تعلل وتحلل وأنت عاجز عن العمل والإحساس
وإذن فليس من الصواب أن نتخذ العقل وحده طريق إدراك وفهم، وأداة تقدير وحكم، وإنما الواجب أن نستخدم في ذلك جميع حواسنا وعواطفنا وكل ما لدينا من المواهب والملكات.
وإذا كان هذا من اللازم بالنسبة لاعتبارات الحياة ومسائل العلم، فأنه لا شك ألزم بالنسبة لتقدير الأدب الذي هو فيض العواطف، وذوب المشاعر، ورسالة الروح، ومن ثم تعلم سر الفشل الذي يحيق بأناس يحملون أنفسهم على معالجة الأدب، ويبيحون لضمائرهم القضاء في مسائله وهم أجلاف غلاظ قد سلبوا كل إحساس وكل عاطفة. ولقد حكى العقاد فقال: كنا منذ أيام نتطارح قصيدة أبن الرومي في رثاء ولده (محمد) وهي القصيدة التي يقول فيها:
طواه الردى عني فأضحى مزاره ... بعيداً على قرب قريباً على بعد
لقد أنجزت فيه المنايا وعيدها ... وأخلفت الآمال ما كان من وعد
ألح عليه النزْف حتى أحاله ... إلى صفرة الجادي عن حمرة الورد
وظل على الأيدي تساقط نفسه ... ويذوي كما يذوي القضيب من الرند
إلى أن يقول:
وأولادنا مثل الجوارح أيها ... فقد كان الفاجع البيّن الفقد
لكل مكان لا يسد اختلاله ... مكان أخيه من جزوع ولا جلد
هل العين بعد السمع تكفي مكانه ... أو السمع بعد العين تهدي كما يهدي
ثكلت سروري كله إذ ثكلته ... وأصبحت في لذات عيشي أخا زهد
إلى أن يقول:
محمد! ما شيء توهم سلوه ... لقلبي، إلا زاد قلبي من الوجد
أرى أخويك الباقيين كليهما ... يكونان للأحزان أورى من الزند
إذا لعبا في ملعب لك لذّعا ... فؤادي بمثل النار عن غير ما قصد
فما فيهما لي سلوه بل حزازة ... يهيجانها دوني وأشقى بها وحدي
فكنا نجمع على أنها خير ما قيل في الشعر العربي في رثاء ولد، إلا رجلاً لا بأس باطلاعه كان يقول: ولكن أحسن من هذا قول أبن نباته في رثاء ابنه:
قالوا فلان قد جفت أفكاره ... نظم القريض فما يكاد يجيبه