هيهات نظم الشعر منه بعدما ... سكن التراب وليده وحبيبه
وقوله فيه:
يا راحلاً من بعد ما أقبلت ... مخايل للخير مرجوة!
لم تكتمل حولاً وأورثتني ... ضعفا (فلا حول ولا قوة)
وجعل يعجب من (وليده وحبيبه) التي فيها تورية بالبحتري وأبي تمام! ويستظرف قوله (فلا حول ولا قوة) ويقول: إن في هذا المعنى لحسناً! وقد استغرب العقاد ذلك الاستحسان من ذلك الرجل الذي (لا بأس باطلاعه) وعجب له كيف يرفع أبن نباته في شعوذته وألاعيبه على أبن الرومي في لوعته وأساه؛ وعندي أنه لا وجه للعجب والاستغراب، لأن ذلك الرجل وإن كان (لا بأس باطلاعه) إلا أنه - على ما هو واضح من شأنه - لم يرزق الإحساس الفني، والعاطفة الفياضة التي تفتح له آفاقاً من الفهم، وتهيئ له الإدراك والنظر في الأدب وما هو بسبيل الأدب من مظاهر الفن والجمال، فليس من الغرابة أن يخطئ ذلك الرجل في التقدير الأدبي، وأن يسف هذا الإسفاف البين في الحكم على الشعر، ولكن من الغرابة أن يباح له النظر في الأدب، والحكم على أقدار الأدباء، ووضعهم فيما هو جدير بهم من المكانة الفنية، وما هو من أهل ذلك ولا عنده أداته من الطبع والحس والعاطفة وبشاشة الروح. وكأن الجاحظ كان يقرر هذا المعنى إذ يقول: طلبت علم الشعر عند الأصمعي فوجدته لا يعرف إلا غريبة، فرجعت إلى الأخفش فألفيته لا يتقن إلا إعرابه، فعطفت على أبي عبيده فرأيته لا ينتقد إلا ما اتصل بالأخبار وتعلق بالأيام والأنساب، فلم أظفر بما أردت إلا عند أدباء الكتّاب كالحسن بن وهب ومحمد بن عبد الملك الزيات. وصدق أبو عثمان، لأن أدباء الكتاب أدق إحساساً، وأوفى شعوراً، وأرهف عاطفة، فهم أقدر على اختراق معالم الوجدان والإحساس بجمال الآثار الفنية، والصور الذهنية المرسومة، فيكون بين الناقد والقائل تجاوب روحي، وامتزاج في الأحاسيس، وهذا هو طريق الإدراك الصحيح، والتقدير الحق، وكأني به الطريق الذي ينشده الفنانون أنفسهم، فقد طلب (بودلير) في الناقد أن يكون مرهف العاطفة، دقيق الإحساس، ينتقد بانفعال، لأن الانفعال يقرب بين الأمزجة ويسمو بالمدارك وكذلك اشترط البحتري في نقد الشعر أن يكون من شاعر مارس الفن، إذ سأله عبيد الله بن طاهر فقال: يا أبا عبادة! مسلم أشعر أم