أبو نواس؟ فقال: بل أبو نواس لأنه يتصرف في كل طريق، ويتنوَّع في كل مذهب، أن شاء جد، وأن شاء هزل! ومسلم يلزم طريقاً واحداً لا يتعداه، ويتحقق بمذهب لا يتخطاه. فقال له عبيد الله: إن أحمد بن يحيى ثعلباً لا يوافقك على هذا! فقال: أيها الأمير! ليس هذا من علم ثعلب وإضرابه. . . وإنما يعرف الشعر من دفع إلى مضايقه!!
وإنها لنظرة بصيرة اتفق فيها الشاعران الفرنسي والعربي، لأن الناقد فنَّان قبل كل شيء، وإن التقدير الأدبي موهبة لا تتأتى ولا تستقيم كما يظن بعض الناس بدراسة النحو والصرف، واللغة والغريب، والتوفر على البحث في بطون الكتب، فأن هذا كله لا يجدي ولا ينفع إذا لم تكن ثمة فطرة سمحة، ونفس مجلوة وطبيعة مواتية، وعاطفة فياضة فنّانة، وإن العلم مهما بلغ مقداره لا يخدم في الفطن الحمأة، ولا يقوّم المشاعر المعوجة. ويا ضيعة الأدب، ويا خسارة الفن إذا ما جمدنا في تقديرهما على أوضاع أهل اللغة، واعتبارات علماء البلاغة. ولعمرك إلى أي حد تفيد هذه الأشياء في التقدير الفني لقول الطغرائي مثلاً يصف شجو حمامة سمعها تنوح وهو غريب بالعراق:
أيكّيه صدحت شجواً على فننٍ ... فأشعلت ما خبا من نار أشجاني
ناحت وما فقدت إلفاً ولا فجعت ... فذكرتني أوطاري وأوطاني
طليقة من إسار الهم ناعمة ... أضحت تجدد وجد الموثوق العاني
تشبهت بي في وجدي وفي طربي ... هيهات ما نحن في الحالين سيان
ما في حشاها ولا في جفنها أثر ... من نار قلبي ولا من ماء أجفاني
يا ربّة البانةِ الغناءِ تحضنها ... خضراء تلفت أغصانها بأغصان
إن كان نوحك إسعاداً لمغترب ... ناءٍ عن الأهل ممنوع بهجران
فقارضيني إذا ما اعتادني طرب ... وجداً بوجدٍ وسلواناً بسلوان
أولا فقصرَك حتى أستعين بمن ... يعنيه شأني ويأسو كلم أحزاني
ما أنت مني ولا يعنيك ما أخذت ... مني الهموم ولا تدرين ما شأني
كلي إلى الغيم إسعادي فان له ... دمعاً كدمعي وإرناناً كأرناني
أو كقول أبن الجهم:
وا رحمتا لغريب بالبلد الن ... ازح ماذا بنفسه صنعا؟