فارق أحبابه فما انتفعوا ... بالعيش من بعده ولا انتفعا
يقول في نأيه وفي غربته: ... عدل من الله كل ما صنعا!
أو لهذه القطعة التي نفث بها حافظ وقد عبر بدار كانت مدرجة لهوه، وملعب شبابه، فلما رآها قد غيَّرت معالمها الأيام حتى خفيت عليه جاشت نفسه بالشعر فقال:
كم مر بي فيك عيش لست أذكره ... ومرّ بي فيك عيش لست أنساه
ودّعت فيك بقايا ما علقت به ... من الشباب وما ودعت ذكراه!
أهفو إليك على ما أقرحت كبدي ... من التباريح أولاه وأخراه
لبسته ودموع العين طيعة ... والنفس جياشة والقلب أواه
فكان عوني على وجد أكابده ... ومر عيش على العلات ألقاه
إن خان ودي صديق كنت أصحبه ... أو خان عهدي حبيب كنت أهواه
قد أرخص الدمع ينبوع الفناء يه ... والهفتي ونضوب العيش أغلاه
كم روح الدمع عن قلبي وكم غسلت ... منه السوابق حزناً في حناياه
لم يدر ما يده حتى ترشفه ... فم المشيب على رغم فأفناه
قالوا: تحررت من قيد الملاح فعش ... حراً ففي الأسر ذل كنت تأباه
فقلت: يا ليته دامت صرامته ... ما كان أرفقه عندي وأحناه
بدلت منه بقيد لست أفلته ... وكيف أفلت قيداً صاغه الله؟
أسرى الصبابة أحياء وإن جهدوا ... أما المشيب ففي الأموات أسراه!
فهذا شعر حي نابض، يتفجر بالعواطف، ويفيض بالأحاسيس حتى لتلمس فيه من ذلك أجساماً حية. . . وإنه لنمط أعلى من الفن الخالد على الأيام، الباقي على الدهر، ولكن ترى ماذا تكون قيمة هذا الشعر إذا ما وقف ناقد في تقديره عند قواعد اللغة والنحو، وتناوله بمقاييس (التورية والجناس) والمقابلة والطباق؟ إنه لا شك ينحط به سافلاً سافلاً حتى الحضيض، وإنه لا شك سيرتفع عليه عالياً عالياً بسفاسف الطبقة النازلة من أمثال أبن النبيه والشاب الظريف كما رفع صاحب العقاد (أبن نباته بشعوذته وألاعيبه على أبن الرومي في لوعته وأساه) ومن هنا تنقلب الأوضاع، ويغدو النقد وهو أداة جمود الأدب، وخذلان للقرائح العبقرية، وعامل تقهقر يرجع بالفن إلى الوراء أضعاف ما يجب أن يندفع