فالناقد الحقيقي هو من حكم عقله وقلبه كما يقول شاتوبريان واستغل منطقه وعواطفه في تقدير ما يقرأ، حتى يستطيع أن يقدر التقدير الصحيح، وأن يخدم الحقيقة الفنية والجمال البياني وإلا فهو فاشل في مهمته، يجني على الفن، ويبخس النبوغ، ويكشف نفسه ويعرضها للسخرية، وكأن العلماء قد أدركوا تلك الحقيقة إذ أنكروا على (المعلمين) والرواة أن يكون لهم في نقد الشعر والحكم عليه، فكثيراً ما تنادر الجاحظ عليهم من جراء ذلك حتى أتخذهم مادة لعبثه ومضاحيكه؛ وكثيراً أيضاً ما نالهم الشعراء أنفسهم بقوارص الكلم، وأليم الهجاء. ولعل من أفكه ما لهم في ذلك قول عبيد الله بن عبد الرحمن الأهوازي في معلم أزري على شعره:
يعبب الأحمق الممرور شعري ... وهجوي في بلادته يسير!
ويزعم أنه نقاد شعري ... هو الحادي وليس له بعير
وفي هذا النمط ما روي من أن أبا جعفر الخزاز عاب شعراً للبحتري، فكانت كبيرة على نفس البحتري حتى عدها إحدى نوائب الدهر إذ يقول:
الحمد لله على ما أرى ... من قدر الله الذي يجري
ما كان ذا العالم من عالمي ... يوماً ولا ذا الدهر من دهري
يعترض الحرمان في مطلبي ... ويحكم الخزاز في شعري
وقد كان الخزاز كما وصفه ياقوت راوية مكثراً موصوفاً بالثقة أخذ عن أبي الحسن المدائني والعتابي، فما نحسب البحتري أنكر عليه النظر في الأدب والحكم على شعره من جهة اطلاعه وعلمه، ولكنه لا شك أنكره عليه من جهة استعداده الفني، ورحابة عواطفه، وسماحة طبعه. ولست ادري ماذا كان يقول أبو عبادة لو أمتد به الأجل ورأى الأدب يحتمل الرهق كل الرهق من (خزازين) كثيرين يتولون دراسة الأدب في مدارسنا المصرية وهم كجماعة المعلمين في قرطبة الذين تحدث عنهم أبن شهيد في قصة التوابع والزوابع ينحتون عن قلوب غليظة كقلوب البعران إلى فطن حمأة، وأذهان صدئة، لا منفذ لها من الرقة ولا مدب لها في شعاع البيان، وكل بضاعتهم من الأدب كلمات من غريب اللغة، وبعض مسائل من النحو والصرف وعلوم البلاغة لا يفهمون منها إلا ما يفهم القرد اليماني من الرقص