ثم دفعت إليه بالكتاب فوضعه على قلبه ثم قبله وفض غلافه. وبعد قرأته التفت إليَّ وقد توردت وجنتاه وسطعت عيناه وقال:(أتأذنون لي يا صاحب السعادة بأن أسألكم هل معكم كتاب آخر؟)
قلت:(نعم ولكن سأسلمه لصاحبه كذلك يداً بيد)
قال:(أصبت. ومتى تصلون إلى القاهرة؟) فقلت: (الأمر يتوقف على حالة الرياح ولكني أظن أن المدة لا تتجاوز سبعة أيام)
وأسر الصبي بكلمات إلى معلمه، وبدا على وجهيهما الاغتباط. . ولم يعد كلانا إلى التحدث في هذا الموضوع.
وجيء بشراب لا شيء فيه سوى عصير الليمون المحلى وماء الورد. ثم جيء بالرمان وسألني الصبي أن أشرفه بالبقاء لديه سائر اليوم
ولولا أنني كنت أرى وجهه وهو يحادثني لظننت أني أحادث رجلا، فقد كان هذا الصغير من الجلال وقوة الأسر كعظماء الرجال
وكان الناس حولنا كأنهم معتادون مشاهدة هذا النضوج السابق لأوانه في الأطفال. وكنت مضطراً إلى أن أتخذ حياله من الاحتشام والكلفة كما لو كان هو حاكم المدينة. على أن ذلك لم ينقص من محبتي؛ إياه وودت لو عرفت موضوع حديثه مع معلمه. ولست أشك في أنهما كانا يحاولان تدبيراً لإعادة الباشا من منفاه
وبعد ساعتين أو ثلاث ساعات عدت إلى السفينة التي جرت بي في بطء إلى الشمال.
نهض الصبي عند نهوضي ومشى بجانبي إلى آخر حدود المدينة والناس على أثرنا في نظام وعند وصولي إلى السفينة حياني مودعاً مثل تحيته إياي مسلماً وقال:(اسأل الله أن يجعل رحلتكم سعيدة يا صاحب السعادة)
وقد بدا لي أن منظر استقباله ووداعه والوقت الذي قضيته وإياه - لقد بدا لي أن كل ذلك كان قطعة من ألف ليلة، فإني إن نسيت شيئاً فلا أنسى تلك الذكرى الجميلة البارزة. أما بالنسبة لهذا الشعب فما من شك أن هذه الحالة هي حالتهم العادية التي تتكرر كل يوم