للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وبعد أيام قليلة استأنفت رحلتي، وكان من أيسر الأمور أن أتصل برفاعة باشا وأن يسلمني الخطابين دون أن يتنبه أحد إلى ذلك، ووضعتهما في حافظتي مع سائر أوراقي ولم أتحدث في هذا الشأن مع أي إنسان في الخرطوم

وكانت رحلتي إلى مصر طويلة شاقة يستغرق مني وصفها أياماً لو حاولت ذلك، فقد قضيت في السفر شهرين قبل أن أتمكن من تسليم رسالة الباشا إلى أبنه المقيم في طهطا بصعيد مصر على بعد بضعة أميال من مجرى النيل. ويحيط بها سهل جميل يغمره ماء النيل مرة في كل عام

وبعد تحريات قليلة وصلت إلى منزل رفاعة باشا ولكن لم يؤذن لي بالدخول لأن السيدات المصريات لا يسمح لهن باستقبال الأجانب. وكان بالمنزل قاعة واسعة مفتوح بابها على الطريق، فأجلست فيها ريثما تذهب جارية سوداء لتأتي بابن الباشا من المكتب؛ وجلس معي في تلك القاعة خادمي الأمين. وقد تسامع أهل البلد أثناء وجودي في الانتظار أني آت من الخرطوم وأني أعرف الباشا فأتوا من كل حدب ليسألوني عنه، وكانوا جميعاً في نهاية الأدب والود، واغتبطوا لما طمأنتهم عليه كما لو كانوا جميعاً من أفراد أسرته

وبعد ربع ساعة عادت الجارية يتبعها ابن الباشا ومعلمه في المكتب، وكان هذا المعلم قد صرف جميع الطلبة وأغلق المكتب وجاء ليسمع أخبار الباشا.

كان عمر هذا الصبي أحد عشر عاماً ولكنه أطول قامة ممن هم في مثل عمره. وقد ابتسم حين رآني ابتسامة عذبة، ولولا إلمامي بعض الإلمام بعادات هذا الشعب لمددت إليه يدي وأجلسته على ركبتي وطوقت خصره بذراعي وتحدثت إليه بغير تكلف، ولكني رأيت أن أصبر حتى أرى كيف يكون مسلكه نحوي.

حياني في وقار وجلال كما لو كان رجلا له سمت وأبهة؛ ثم تناول يدي فأدناها من قلبه ثم من شفتيه ثم من جبينه؛ ثم اتخذ مجلسه فوق ديوان عال بجانبي.

وأعاد تحيتي وهو في مجلسه وصفق ثلاثاً، فجاءت جارية أمرها بأن تعد لي القهوة ثم قال: (كيف صحتك يا صاحب السعادة؟) فأجبته: (بخير والحمد لله)

قال: (هل لديكم أوامر لي؟ مروا تطاعوا!)

فقلت: (أشكر لطفك، وليس لي إلا تحيات أحملها إليك من أبيك الباشا، وخطاب منه وعدته

<<  <  ج:
ص:  >  >>