وهكذا نرى ابن عباس يفسر النون في الآية بالحوت، ولكن أي حوت؟ ذهب بعض المفسرين الذي يحبون الأغراب في كلام الله تعالى إلى أن المراد به (الحوت) أخو (الثور) اللذان كانا وما زالا يَنُوآن بحمل الارضين السبع!!
غير أن الحسن البصري رضى الله عنه ما كان من قصاص المساجد أن يذهبوا في تفسير الوحي الإلهي هذا المذهب في الأغراب والتهويل. إذ أن التسامح في ذلك بقصد التأثير في نفوس الدهماء من العامة إن سر عاجلا فانه يسوء آجلا.
وهذا ما حمل الحسن البصري على تفسير (النون) بالدواة تأييداً لابن عباس رضى الله عنه في تفسيره للنون بالحوت.
أما إطلاق (الحوت) وْإرادة الحبر منه فله شواهد كثيرة من اللغة العربية التي يتسع صدرها لأمثال هذا الإطلاق. بل ربما كان له شواهد أيضا في اللغات الأخرى، وها نحن اليوم نقول فيتيل (المدينة الفرنسية) ونريد ماءها المعدني الذي ينبع فيها - وكولونيا (المدينة الألمانية) ونريد ماءها المعطر الذي يصنع ويجلب منها - وجنيه (بلاد غينيا) ونريد الدينار المصري الذي استخرج ذهبه من معادنها - ويقول العرب (نون) أي الحوت، ويريدون الحبر الأسود الذي يستخرج سائله - وأنزل القرآن بلغة العرب وعلى مناحيهم في أساليب البلاغة، فافتتحت السورة بالقسم على براءة النبي صلى الله عليه وسلم مما قاله المشركون فيه وتنبيه المخاطبين إلى عظيم فضل الله على البشر مذ هداهم إلى التسطير والكتابة، والى استخدام أدواتها من حبر وقلم. فكان ذلك سبباً لما بلغوا إليه من علم وحضارة وثقافة.
ولم أرد أن أحقق هنا معنى الآية الكريمة، ولا ما هو الأصح المعتمد في تفسيرها، فان ذلك مبين في تفسيري على (جزء تبارك) المهيأ للطبع - وإنما أردت أن أبين المصدر الذي استقى منه (كازيمرسكى) القول بان النون تدل على خلاصة علوم البشر حتى رأى الياس بك القدسي إنها تصلح لان تقوم مقام الانسكلوبيدي
ولا سيما أن في الإمكان تناول مشتقات مختلفة منها: فيقال مثلا (نّون تنويناً)(منّون)(منّونون) وتؤنث فيقال (النونة) الفرنسية (والنونة الألمانية) والنونة العربية وينسب إليها فيقال فلان صاحب نون ونوني