الأصل والطبيعة، فتراها تتلون بلون المؤثر إن ضعفت بالنسبة له، أو تراها تلون المؤثرَ إن قويت عليه، أو تراها تمتزج معه إن تعادلا منزعاً وقصداً وغاية. وهذه هي الحقيقة الواضحة التي نلمحها في ثقافات الشعوب المتعدَّدة
أتيتُ بهذه المقدمة لا لأبحث في نشوء العقليات وتطوِّرها فهذا أمرٌ لا قدرة عليه إلا لمن أوتي القدرة على تفهم ثقافات الأمم جميعاً وإرجاعها كلها إلى الصور العقلية والذهنية التي صدرت عنها وهذا بعيد على مَن يحاوله. ولكننا رغبنا أن نظهر ببساطة أن منازع التفكير لا تدعو إلى تفاصيل في العقلية، ثم هي بعد هذا لا تبيح للكاتب أن يفاضل بين الشرق والغرب فيقرّر حدوداً قاطعة بينهما لأن العقل لا يعرف الحدود القاطعة الحاسمة
وقد درَج الكتاب على تقرير عقلية للشرق وأخرى للغرب؛ وذهب بعضهم إلى أبعد من هذا فقرروا طبيعة كل من هاتين العقليتين وأن الواحدة منهما لا تقبل إلا المظهر الفلاني ولا تتلون إلا بلون خاص. وهم بقياس المظاهر الفكرية لهذه العقليات قد طبقوا هذا القياس نفسه على الشعوب فتفاضلت بسبب ذلك
هذه ملاحظة أساسية استخلصتها من بحث للدكتور إسماعيل أدهم في موضوع الشرق والغرب المنشور في الرسالة (٢٥٩، ٢٦٠) ولست أقصد في هذه الكلمة أن أناظِرَ الكاتب في هذا المبحث فإن الوصول إلى حد حاسم في هذا الشأن بعيد الوقوع. ولكن بعض الحقائق التي تضمنها بحثه المذكور تفتقر إلى تدقيق؛ ثم هو بعد هذا لم يشأ أن يستند في النتيجة التي توصل إليها إلى الحقائق التاريخية فأورد بعضها ونسى أو تناسى الآخر. ولقد أحسن الدكتور صنعاً في أن دعا إلى مناقشة ما أتى به. ولا زلنا نرغب معه في أن تجلو الأقلام كثيراً من الحقائق المتعلقة بهذا الموضوع فننصف الشرقي والغربي وننصف معهما الفكر العربي من كثير مما أصابه وهذا مما لا يرتكز على حقيقة
(أولاً) تحديد لفظي الشرق والغرب، فقد حرنا حقيقة في جلاء ما قصده الكاتب في هذين اللفظين. فهو تارة لا يرجعه إلى أساس جغرافي في تقسيم العالم إلى بلدان في قوله (إن ما نعنيه بإصلاح الشرق والغرب لا يقوم على تقسيم العالم من شرق وغرب في تقويم البلدان) ثم نراه مرة أخرى يقف عند هذا الحد فلا يظهر لنا ما عناه بهذا المصطلح فيقول (إنما ترجع التفرقة عندنا إلى ما نلمسه من طابع ذهني للغرب ومنزع ثقافي للشرق) وبعد هذا