عليك جهودك من اندحار، فإن ذلك من شأن الحقيقة لا من شأنك)
قال نيتشه بهذا المبدأ، وعمل به وبالرغم مما يتجلَّى في تعاليمه من غرور وصَلَف، فإنه كان يسير في أبحاثه ولا هَّم له سوى استكشاف الآفاق فيورد اليوم فكرة يكذِّبها غداً، فكأنه بإنكاره الخير والشر لم يجد بداً من إنكار كل عقيدة ثابتة. فإذا أنت أردت أن تسير وراء هذا الفيلسوف طلباً للعقيدة فلا تتعب نفسك باللحاق به في مراحل يقطعها بخطواته الجبَّارة لأنه هو نفسه قد أَصابه الخبل وبصيرته تائهة في استلهام الحقيقة واستقرائها
مَنْ قال لك:
(إنه لا مكتشفَ لحقيقة ذاته إلاَّ من يهتف: هذا هو خيري وهذا هو شرّي فيُخرس الخلد والقزم القائلين بأن الخيرَ خيرٌ للكل والشرَ شرٌّ للجميع)
من قال لك هذا، لا تتوقع منه أن يأتيك بشِرعةٍ تقوم مقام الشرائع التي يثور عليها
إن نيتشه المفكر الجبار الذي يفتح أمام الفرد آفاقاً وسيمة في مجال القوة والثقة بالنفس وتحرير الحياة من المسكنة والذل، تائقاً إلى إيجاد إنسان يتفوَّق على إنسانيته بالمجاهدة والتغلُّب على العناصر والعادات والتقاليد وما توارثته الأجيال من العقائد الموهنة للعزم، يقف وقفة الحائر المتردد عند ما يحاول إقامة مجتمعٍ لأفراده المتفوِّقين، بل هو يضطر إلى نقض أوليَّاته القائمة على احتقار الرحمة والرُّحَماء حتى ينتهي إلى قوله:
(إن العالم الذي يتفوَّق على الإنسانية إنما يعود بها بعد هذا الجنوح إلى بذل حبه للأَصاغر والمتضعين)
وهكذا ترى زرادشت الداعي إلى تحطيم ألواح الوصايا جميعها والى إنكار الشريعة الأدبية لإقامة شرعة جديدة ما وراء الخير والشر يعود مفتشاً بين أنقاض الألواح التي حطَّمها على كلمات قديمة يجعلها دستوراً لإنسانيته المتفوِّقة
إن نيتشه الذي ذهب إلى أبعد مدى في تفحُص سرائر الإنسان وأهوائه يضيق به المجال عندما يتجه إلى حلِّ المعضلات الاجتماعية، لأنه إذا أمكن للفرد المنعزل أن يختطَّ لنفسه منهجاً يوافق هواها باعتقاده أنه هو المُبدع لذاته والحركة الأولى لها، فإنه ليمتنع عليه أن يكون عضواً حياً في المجموع إذا هو لم يعترف في علاقته مع إخوانه بأنه ليس مصدراً لذاته ولا مآباً لها