إن مَنْ يطمح إلى مثل ما طمح إيه نيتشه من تكوين مجتمعٍ منظم يسود فيه المتفوِّقون ولكلٍ منهم شرُّه الخاص وخيره الخاص، وخيره لا يوجِدُ في النهاية إلا مجتمعاً يتفاوت التفوُّق فيه بين أفراده فيقضى الأقوى منهم على الأقل قوةً منه حتى يقف آخرُ الظافرين منتحراً بقوته وعنفه كما انتحر إلهُ نيتشه برحمته
غير أنَّ المبدع لزرادشت لم تفته هذه الحقيقة، فعاد إلى الشريعة الأولى يختلس منها آيتها الكبرى ليوردها وصيةً لدنياه فقال:
(حذارِ من الطُّفْرة في مسلك الفضيلة فعلى كل فردٍ أن يسير في طريقه وإن جنح عن مسلك الآخرين، فلا يطمحنَّ إلى بلوغ الذروة وحدَهُ إذ على كل سائر أن يكون جسراً للمتقدمين وقدوة للمتأخرين)
أين هذه الوصية مما دعا إليه زرادشت في مفكراته نفسها إذ قال:
(على أهل السيادة في الإنسانية المتفوِّقة أن يمهِّدوا سُبُلَ السعادة لمن هم دونهم بتضحية ملذَّاتهم وراحتهم، وعليهم أيضاً أن ينقذوا مَنْ لا يصلحون للحياة بالقضاء عليهم دون إمهال)
بل كيف يتفق القسم الأول من هذه الوصية مع قسمها الثاني؟ ومن له أن يضع مقياساً يقضي به على مَنْ لا يصلحون لها إذا اتبع القاضي شرعة زرادشت القائل بأن على اتباعه أن تتجلى القوة فيهم من الرأس حتى أخمص القدم
ولو أن مذهب نيتشه هذا طُبَّقَ قبل ميلاده لكانت السلطة التي يراها مثلاً أعلى قضت على أبيه وأمه دون إمهال فما كان له هو أن يظهر في الوجود بدماغه الجبار وبسُم الدعاء الذي جال من دمهما الملَّوث في دمه. . .
ثم، أليس هنالك غير هذه الأدواء الطارئة والتي يمكن للعالم أن يكافحها، ما يقضي على الإنسان بالرضوخ له من حالة في جسمه لا قبل له بتبديلها أو تعديلها؟ أفما تحقق الطب أن كل مولود يجيء الحياة إنما يدخلها مستصحباً معه إليها من سلالته الضعف الذي سيقضي عليه؟ أفليس في كل دارج على هذه الغبراء علة أو علل كامنة في تكوين أعضائه ستورثه الردى حين تدنو ساعته؟
أي جسم مهما ظهر لك صحيحاً ليس فيه عضو هو أضعف الحلقات في سلسلة أعضائه وفي فراغ مناعته المحدودة انفصام العرى وبداية انحلال العناصر في الهيكل الفاني؟