هذه الحياة أم ما وراء الحياة، إنما تتغذَّى من الجسد ناحلاً عليلاً كما تتغذَّى منه مليئاً بالنضارة والصحة والبهاء
إن للحكمة العليا مقياسها في تقدير الجهاد الأكبر على كل نفس، ومن يدري في أية لحظة وبأي مداد من قوة الجسد أو ضعفه تخطُّ الروحُ الأسيرة آخر سطر من كتابها؟. . .
إنَّ محور الدائرة في فلسفة نيتشه إنما هو إيجاد إنسان يتفوّق على الإنسانية. لذلك تراه يهزأ بكل من عدّه التاريخ عظيماً بين الناس قائلاً: إن الجبل الذي يلد العظماء لم يولد بعد، وأن لا رجل في هذا الزمان يمكنه أن يتفوّق على ذاته، وكل ما بوسع الناس أن يفعلوه في سبيل المثل الأعلى هو أن يتشوّقوا إليه ليخرج من سلاتهم في مستقبل الأزمان
وسوف يرى القارئ في الفصول الأخيرة، ما هو تقدير زرادشت للرجال الراقين في هذه الحقبة الشاملة لعصره ولعصرنا فهو يعتبرهم نماذج فاشلة للإنسان الذي يتوقَّع نشوءه، وغير أن زرادشت وهو يتكلم بلهجة الآمر الناهي ويرسم للحياة طرقها بخطوط متفرقة إن لم تجمعها أنت بقيت حروفاً منتثرة لا معنى لها لا يقول لنا بصراحة ما يجب أن نفعله لنصبح جدوداً لأحفاد تصلح بهم الحياة، ولكن من يعود بصيرته على مجاراة نيتشه في الرؤى التي يهيم فيها يستوقفه قوله:
(إن ما فُطرنا عليه هو أن نخلق كائناً يتفوق علينا، تلك هي غريزة الحركة والعمل)
ثم يستوقفه في موضع آخر قوله:
(إنني لم أجد امرأة تصلح أُماً لأبنائي إلا المرأة التي أحبها)
فإذا ما وقف المفكر عند هذا يعرف ما هي تلك الفطرة التي يراها دافعة للإنسان إلى التفوق على ذاته وأنساله
وما تكون تلك الفطرة إن لم تكن حافز الحب الصحيح وفي أعماقه غريزة الانتخاب تجذب الزوجين إلى اتصال يشدد أحدهما فيه ما وهن في بنية الآخر
ولولا أننا درسنا ملياً مسألة اعتلاء الأمم وانحطاطها ببحث صحة النسل واعتلاله في فصل (منابت الأطفال) من كتابنا (رسالة المنبر إلى الشرق العربي) لكنا نثبت هنا أن إيجاد الإنسان الكامل في إنسانيته، لا الإنسان المتفوق على نوعه كما يريد نيتشه، إنما يقوم على مجاراة حوافز الاختيار الطبيعي في الزواج باعتبار كل شهوة جامحة وكل طمع يسكت