للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وأخيراً لاتحاد الهارموني فيها

والموسيقي الفنان الذي يعبر عما يجول بنفسه الثائرة هو ذلك الذي يدرس الطبيعة في مختلف مظاهرها ويتأملها فلا يقنع بما فيها فيشقى؛ ثم يجدُّ في الوصول إلى غايته راغباً التعبير عما يتغلغل في نفسه من جمال كمالي يعتقد بوجوب ظهوره فيعجز، ثم يقنع بتقليد ما فيها إلى حد ما، في أصوات يخرجها للناس، متوخياً الوصول إلى ذلك المثل الأعلى الذي لا يخرج عن كونه الظمأ نحو الخلود.

والمثل الأعلى مما لا يمكن وجوده أو رؤيته أو سماعه، ولهذا فهو غاية نسمو إليها بالخيال الذي يعبر عنه الفنان الموهوب بما نسميه الوحي أو الإلهام وما يسميه الجميع الخلق الفني

والفن روح خفية تسكن نفس الفنان فتبعث فيه عينين قادرتين على النظر لا كما يرى الجميع، بل على ذلك النظر التقديري الذي يتعرف به الجمال أينما كان، وأذنين قادرتين على السمع لا كما يسمع الناس، بل على السمع الدقيق الفائق الذي به يستطيع التفرقة بين ما هو سام وما هو غير سام. لذا وجب أن يكون الموسيقي رجلا تمثلت كل قواه في عينيه وأذنيه، فبالعينين يتلمس الجمال المشاهد، وبالأذنين يتلمس الجمال المسموع، فيخرج للناس ما لا غنى لهم عنه، ألا وهو الخلق الموسيقي السامي

والأصل في الخلق الموسيقي السامي هو حاسة النظر بلا شك لأن بها يتأثر الفنان - موهوباً كان أو ملهماً - بما في الحياة، وتكون نتيجة هذا التأثر القدرة على الخلق الفني، وعلى ذلك نرى الفنان دائم التأمل الذي يعود عليه بالبؤس - غالباً - فهو أشبه بالفيلسوف الذي لا يقنع بما يراه أو يسمعه؛ فيقضي حياته عاملا مكملا قدر استطاعته، ولكنه يفنى دون أن يصل إلى ما تصبو إليه نفسه، تلك النفس التي تميزت على نفوس المجموع بصفاء النظر ودقة التأمل والدرس والتغلغل في كنه المرئيات والمسموعات وأخيراً بالهيام والمقدرة الهائلة على تفهم الجمال المطلق. كل هذا متجمعاً يكون لك تلك النفسية البريئة الهادئة الوديعة، نفسية الفنان.

يقول أرسطو إنه لا ينبغي أن يقف الغرض من الموسيقى عند حد التلهية والتسلية، لأنها من أهم وسائل التهذيب الأخلاقي ومن خير طرق العلاج الفعال البطيء لتنقية النفس من عيوبها المتأصلة

<<  <  ج:
ص:  >  >>