وشاعرنا قد جمع في وثبته بين القديم والجديد: فهو يمثل جزالة الشعر العربي الرصين وقوة أسلوبه ومتانة بنائه، كما يمثل الجديد في سلاسة معانيه، وطرافة موضوعاته وحداثة مراميه، فكان وسطاً حبيباً بين العهدين، وروحاً فياضة بين الجيلين وعلماً فرداً في توسط الاتجاهين.
وهو نسيج وحده في أغلب الموضوعات التي يطرقها لا يشبه فيها شاعر اللهم إلا في الموضوعات الاجتماعية التي يظهر فيها تأثير البيئة الواحدة في جميع الأقلام، وفي هذا يمثل الشاعر بيته وما يعتمل في أطوائها وما يشيع في أجوائها خير تمثيل.
وقبل أن أختتم كلمتي العاجلة أود أن ألمس المدى الذي بلغه الشاعر في ديوانه الأخير والخطوة الواسعة التي خطاها في أغانيه الأخيرة بعد أن انقضت أعوام ثلاثة على ديوانه الأول (أغاني الكوخ)
إن من قرأ للشاعر في ديوانه الأول حديثه الفطري عن (حاملة الجرة) ثم يقرأ قصيدة الرائعة عن (الغراب) في ديوانه الأخير يلمس عمق التأمل وغور الاستيعاب الوافدين على شعره الجديد وقد أضفيا على قريضه القوة والمضاء. كذلك يلمس القارئ في ديوان الشاعر الأخير مدى توسعه في الموضوعات الاجتماعية وشبوب عاطفته في الناحية الغزلية، وذلك الطهر الذي يهيمن على مشاعره
وليس ثمة ما أعيبه على الشاعر غير تلك الرهبنة وذلك المذهب الكنسي الذي يصبغ أكثر قصائده، ولكن العارف المشرف على حياة الشاعر والدارس لبيئة لا يعجب لتلك القوة المسيطرة عليه فقد أخذت على الشاعر الصديق في حديث لي معه هذا المنحى الغالب على تأملاته؛ ولكنني عرفت أن في بلدته (النخيلة) تنهض الكنيسة على كثب من المسجد ويبعثان في النفس الطاهرة رهبة الإيمان والتقديس
فإذا أضفنا إلى ذلك نشأة الشاعر الريفية الساذجة أدركنا عمق التأثير الشخصي إلى جانب التأثير العام فيما يصدر من القريض
وليس للشاعر محمود نوع خاص من الفلسفة، فهو يرى الفلسفة في ذلك التأمل العميق في أسرار الحياة أينما وقعت عليها العين الفاحصة والشعور الملهم
بقي أن أقول صراحة إن ديوانه الأول (أغاني الكوخ) كان يمثل الفن الرفيع وحده، فلم