عندهم - والحالة هذه - إلا مادة كمالية. ومهما أنكروا هذا بألسنتهم فهم ملزمون به من عملهم.
ألا ترون أن طالب العلم الديني يدرس كتب الفقه ويعرف أحكام الدين - في زعمهم - ويدرس كتب التوحيد والعقائد قبل أن يدرس القرآن وتفسير القرآن؟ بل ربما لا يحضر دروس التفسير أصلاً، وإن هو حضرها فلا يستطيع أن يأخذ منها حكما واحداً لأن طريقتها لا تعود الاستقلال في الفهم ولأنه نشأ على ذلك.
في صدر الإسلام كان النبي عليه السلام لا مادة عنده للدين غير القرآن، فمنه كان يعلم الناس، وبتلاوته عليهم كانوا يسلمون لما يأخذهم من روعة وبلاغته، وصدق لهجته، والشعور بإعجازه. وبالقرآن كان الصحابة ومن بعدهم يبلغون الدين. وفي تلك الأوقات كان النابغون في علم الدين أكثر من أن يحصوا، بل تستطيع أن تقول إنه لم يكن أحد حينئذ يقلد أحداً فيه، وإذا جهل أحد شيئاً فإنما كان يرشده به للدليل ولا يلقنه الحكم تلقينا.
ولما فشا التأليف، وأكثر المتعلمون من قراءة الكتب التي ألفها أصحابها فيما استنبطوه من الأحكام الفقهية، والمجادلات الذهبية، نقص معدل النبوغ، ثم صار يزداد نقصاً كلما كثرت المؤلفات الفقهية وأقبل الناس على دراستها. فلما كان العصر الخامس بدت تلك القولة المجرمة الأثيمة، ألا وهي سد باب الاجتهاد، وصرح بعض الفقهاء أن الاجتهاد بعد الأربعمائة منقطع، وذلك لضعف ثقتهم بأنفسهم، وسوء ظنهم بالناس. فضعفت الهمم، ومازالت الأمة إلى الوراء حتى عصرنا هذا. فالمسلمون من العصر الخامس حتى اليوم، بل من العصر الثالث لا يأخذون الدين إلا من كتب الفقه والكلام طبقة عن طبقة؛ فكل طبقة تنظر في كلام سابقتها وتشرح أو تعلق أو تؤول، حتى وصلنا الدين بحالته الحاضرة وبعبارة صريحة: وصلنا وهو بعيد عن القرآن ألفا وأربعمائة سنة. إي والله ألفاً وأربعمائة سنة نحن بعيدون عن القرآن، وإن كنا نتلوه للتبرك، وذلك بسبب الالتواء في الدراسة. وقد وصدق علينا المثل العامي: تمسك من الدين بذيله: نترك رأس النبع وهو القرآن، ونأخذ من ذلك الرشاش المتطاير منه إلى إفهام الناس. أفلا ينظر المسلمون إلى أي هوة وصلوا من جراء هذا؟! كانوا عند ما لحق الرسول بالرفيق الأعلى أمة واحدة، لا يعرفون لهم إماما إلا القرآن. وأصبحوا لا تحصى فرقهم ومذاهبهم وشيعهم. ولكل فرقة أو شيعة إمام غير