لا يقولن قائل إن السبب في بعض الاختلافات كان سياسياً. فإن الاختلافات السياسية كان ينبغي أن تموت بموت سببها، ولكن بقاء الكتب وداستها فيما بعد، دون دراسة القرآن الكريم بعقل مجرد عن تأثير تلك الاختلافات، هو الذي أبقاها
وكان المسلمون لا يتركون القرآن إلى سواه، ولا يبحثون عن حديث الرسول في قضية ما إلا إذا لم يجدوا لها نصاً في كتاب الله، كما كان يفعل أبو بكر وعمر وسائر الصحابة. فإذا اضطروا إلى حديث أخذوه بكامل التحري. واصبحوا اليوم (ولديهم مئات الألوف من الأحاديث) يجعلونها في مرتبة القرآن ويختلفون: هل ينسخ الحديث القرآن أو يقيد مطلقه ويفصل إجماله؟! وصاروا يؤولون كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ليوافق كلاماً رووه، ولو حققوا لما رووه. وذهبوا إلى أبعد من هذا فأولوا القرآن ليوافق مذاهبهم ونحلهم، وأقربهم اعتدالاً أول آية التيمم لتوافق المذاهب المعروفة وعدها من المشكلات، ولم يجز لنفسه أن يؤول تلك المذاهب لتوافق القرآن. ولعل أصحاب المذاهب لو انتبهوا لمخالفة القرآن لرجعوا إليه.
وكان الدين سمحاً سهلاً قليل التكاليف، يستوي في فهمه البدو والحضر، والأذكياء والبلداء، والمتعلمون والعوام، لكونه دينا عاماً لا يختص بطبقة دون طبقة، ولا يقبل دون قبيل.
فمن المعقول ألا يختلف في إدراك عقيدته، ومعرفة تكاليفه أقل الناس إدراكاً عن أعلاهم ذكا، ولكن الاختلاف إنما يكون في طرق الاستدلال. فالفيلسوف يستدل على وجود الله بفلسفته، والطبيب بما يرى من دقائق تركيب الجسم، والحراث مثلاً يستدل عليه بما يقع تحت حسه من نبات وحيوان وكيفية نشأته ونظام حياته - أقول كان الدين سهلاً ولكن كتب العقائد هي التي جعلته صعباً عسير الفهم، لأنها من الكبر والاتساع بحيث تحتاج إلى سنين لدراستها، ومن الدقة والعمق بحيث يعيي فهمها الأذكياء والعباقرة. وكذلك الفقهاء الذين فرعوا الفروع، وفرعوا من الفروع فروعاً (وولدوا البنات من الأمهات، كما يقول ضاربو الرمل) حتى فضوا المستحيلات، فهؤلاء قد طمسوا على سماحة الدين، وجعلوه كثير التكاليف، كثير الحشو. وأذكر مما يحضرني الآن مسألتين: قالوا: بعد أن يتوضأ المتوضئ أينشف أعضاءه أم لا؟ وجعلوها مسألة خلافية. ومن العبث والغفلة أن يقال إن هذه المسألة