رقيب عتيد! ولست بمستطيع أن أفسر سّر هذه الثقة العجيبة التي ظفر بها الرافعي من قرائه؛ ولكني أستطيع أن أجزم بأنه كان أهلاً لهذه الثقة؛ فما أعرف أنه باح بسرَّ أحد فسماه أو عرَّف به، وما أطلع على رسائل قرائه أحداً غيري إلا قليلاً من الرسائل كان لا يرى بأساً من إطلاع نفر قليل من أصحابه عليها لغرض مما يستجرَّه إليه بعض الحديث في موضوعها؛ بل إن كثيراً من هذه الرسائل قد أخفاه عني - وما كان بيني وبينه حجاب أو سر - فما عرفت خبرها إلا بعد موته. ويستطيع أصحاب هذه الرسائل أن يطمئنوا إليَّ؛ فستظل أسرارهم - في يدي - مصونة عن عيون الفضولين، فلم أتناول الحديث عنها إلا من حيث يدعوني الواجب لجلاء بعض الحقائق في هذا التاريخ.
وكان له مراسلون دائمون. . يجدون الكتابة إليه جزءاً من نظام حياتهم، فلا تنقطع رسائلهم عنه، ولا يخفي عليه شيء من تطورات حياتهم وقد أكسبهم طول العهد بالكتابة إليه شيء من الأنس والاطمئنان إليه كما يطمئنون إلى صديق عرفوه وجربوه وعايشوه طائفةً من حياتهم؛ وأن القارئ ليلمح في هذا النوع من الرسائل الدورية التي يبعث بها إليه هؤلاء الأصدقاء الغرباء، مقدار ما اثر الرافعي في حياتهم منذ بدأت صلتهم به، فتطورت بهم الحياة تطورات عجيبة؛ وأدى الرافعي إليهم دَينه وأثر فيهم بمقدار ما كان لهم من الأثر في أدبه وفي حياته الاجتماعية. وإني لأضرب مثلا لواحدة من هؤلاء الأصدقاء: فتاة من أسرة كريمة في دمشق، نشأت في بيت عز وغنى وجاه، وهي كبري ثلاث نشأن نشأة يفاخرن بها الأتراب؛ ثم تقلبت بهن الحياة فإذا هن بعد الغني والجاه ناسٌ من ناس. . واضطرت الكبرى أن تخرج إلى الميدان عاملة ناصبة لتعول أسرتها، وكان لها من ثقافتها وتربيتها معين ساعدها دون أختيها في ميدان الجهاد؛ وعلى أنها كانت أجمل الثلاث وأولاهن بالاستقرار في بيت الزوج الكريم فقد سبقتها أختاها إلى الرفاء والبنين والبنات وضلت هي. . وما كان ذلك لعيب فيها ولكنة سرَّ لم يلبث أن أنكشف لعينيها: لقد كانت هي وحدها ومن دون أختيها التي تستطيع أن تعول أسرتها لأنها عاملة. . .
وتألمت حين عرفت السَّر ولكنها كتمت آلامها وظلت (صابرة) ومضت الأيام متتابعة والأماني تخلف موعدها؛ وتحركت فيها غريزة الأمومة ولكنها قمعتها بإرادة وعنف ومضت تصارع الطبيعة وتتحدى القدر بعزيمة لا تلين؛ ولكنها لم تلبث أن أحسَّت بوادر الهزيمة