على الحاضر والمستقبل فحسب بل على ما مر وتوارى أيضاً في عاصفات الأحقاب؟. .
إن بدعة الإنسان المتفوق إنما هي تقديرنا تشوق نفس شعرت بأنها كانت وستكون، وقد ضرب الإلحاد حولها نطاقا ًفتوهمت أنها ستبلغ في هذه الحياة ما ليس من هذه الحياة.
إن نيتشه يعلن إلحاده بكل صراحة ويباهي بكفره؛ غير أننا لا نكتم القارئ الكريم ما قرأناه بين سطوره، وقد مررنا بها كمن عليه أن يتفهم كل معنى ويستجلي كل رمز، يحفزنا إلى القول بأننا لم نر كفراً أقرب إلى الإيمان من كفر هذا المفكر الجبار الثائر الذي ينادى بموت الله ثم يراه متجلياً أمامه في كل نفس تخفق بين جوانح الناس من نسمته الخالدة، فإن هذا الملحد، بالرغم من اعتقاده بأن الجسد هو اصل الذات وان الروح عرض لها وبأن كلا الروح والجسد فانيان، لا يملك نفسه من الهتاف وهو يؤكد عودة كل شيء واستمرار كل شيء فيقول:
- أواه كيف لا أحن إلى الأبدية وأضطرم شوقاً إلى خاتم الزواج، إلى دائرة الدوائر حيث يصبح الانتهاء ابتداءَ. إني لم أجد حتى اليوم امرأة أريدها أماً لأبنائي إلا المرأة التي أحبها لأنني أحبك أيتها الأبدية!
إنني أحبك، أيتها الأبدية
أين هذه الهتفة الرائعة تصدو في أعماق روح تتطَّير من الزوال من ابتسامة الملحد الصفراء وهو لا يرى وراءه وأمامه إلا العدم والزوال، بل يكاد يرى وجوده خدعة وخيالاً كاذباً.
إن فلسفةّ لا تستنيم لفكرة الفناء ولا ترى في النهاية إلا عودة إلى بداية ليست بالفلسفة الجاحدة، فالمفكر المؤمن بإنسانية عليا تتدرج إلى الكمال حتى ولو قال بألوهية الإنسان على الأرض لا يمكنه أن يؤمن في قرارة نفسه بكمال مطلق تتشوق روحه إلية ما وراء هذا العالم.
ولابد هنا من إيراد تاريخ موجز لحياة الفيلسوف، وليس في حياته القصيرة وهي مليئة بالآلام من الحوادث ما يستحق التدوين غير المراحل التي مر عليها تفكيره فتأثر بها. وهل نيتشه إلاَّ فكرة وهل حياته إلاَّ وقائع ميادينها السطور والصفحات؟
ولد هذا العبقري الثائر سنة ١٨٤٤ في بلدة روكن من أعمال ألمانيا وكان أبوه واعظاً