شوقي طغى على شعر ولي الدين. على حين أن قصيدة أبي فراس:(أراك عصي الدمع شيمتك الصبر. . .) تساوي ديواناً. ولا جدال في أن صاحبنا أبا الطيب يتمنى لو تكون له، إلا أن عواطف المتنبي بعيدة كل البعد عن رقة أبي فراس في غزله بعد رقة شوقي عن طبع ولي الدين
فلسنا نحس ونحن نقرأ شوقي قلبه يجول في السطور. فما هناك غير شاعر ينقر العود ليطرب سامعه، وربما ليرفعه إلى أعلى ذروة من عالم الطرب؛ على حين أن ولي الدين في شعره الغزلي يثب وثباً إلى القلب ويتلاعب به ويملكه ويذله ويدعوه إلى الإقرار مكرهاً بأنه فعل فيه فعله، وبأنه تأثر كل التأثر به، وبأن ما في هذا الشعر يحاكي عواطفه وميوله؛ فهذه نفسه مسبوكة في أبيات من الشعر ذوات قواف وأوزان، بينما هو يقف أمام شوقي وقفة الإعجاب، وقفة الاحترام والخشوع، فيتأثر عقله لا قلبه، شأن كل منا أمام الأهرام وقلعة بعلبك وخرائب تدمر، فنعجب بالصانع والمبتكر دون أن يكون لهذا الإعجاب صلة بالقلب. فالقلب يظل مستقراً في زاويته لا تهتز منه الأوتار، على حين أن تغريدة بلبل وزقزقة عصفور تحتلان منه الصميم
وهذا موقف أبي فراس من المتنبي: المتنبي شاعر القوة وأبو فراس شاعر المهجة المقروحة، والاثنان لا يلتقيان. فالمتنبي لما عاد من مصر بالإخفاق، واحتل قلبه اليأس لم يفكر في سوى الهجو، في غير ضرب العصا، فما جرى في منظومة قلبه بل حقده، بل أعصابه الثائرة وحنقه. فأطلقها تغلي كالمرجل الجياش:
عيدٌ بأية حال عدت يا عيدُ ... بما مضى أم لأمر فيك تجديد؟
أما الأحبة فالبيداء دونهم ... يا ليت دونك بيد دونها بيدُ
وهذا شعر، ولكنه شعر حجري مقدود من الجلمود!
وأبو فراس يئس كالمتنبي لدى وقوعه في الأسر، ولا نكير في أنه كان أشد من المتنبي يأساً وقد نزعت منه حريته وبات تحت رحمة ملك الروم. على أن هذا اليائس لا يضرب بالعصا وهو ينظم الشعر، فلا يقول كالمتنبي:
لا تشتر العبد إلا والعصا معه ... إن العبيد لأنجاس مناكيد