أسباب خلود الشعر وبقاءه، فان الآثار الشعرية تشرق عليها الحياة في العصور المختلفة، بينما تبلى القطعة العلمية بمرور الزمن، وتنطمس معالمها، وأكبر ظني أن هذا يرجع إلى وضوح القطع العلمية، فالشيء الذي يتضح أمام الإنسان لا يفكر في ترديده وتكرار النظر فيه. وأي حاجة تستدعي ذلك؟. أما الآثار الشعرية فإنها لا تنضج أمام الإنسان جملة واحدة، ولهذا نحن نقرأها مرة ومرتين وثلاثاً، وقد نحفظها ونكررها ولا نحس بضجر ولا بملل، بل نحن نجد في ذلك لذة مغرية ومتعة طيبة
والغريب كل الغرابة أن الأستاذ فضلي يدعي (أن كل بديع في هذا الكون من منظر إلى صوت إلى شعر يلازمه الوضوح كيفما تكيف وتطور وتصور) ثم ينتهي إلى أن (الوضوح هو جوهر الجمال) وما أعرف أن أحداً يستطيع أن يوافق الأستاذ على دعواه، بل إن نقاد الفنون المختلفة يكادون يجمعون على أن الوضوح إذا عرض للآثار الفنية أفقدها كثيراً من روعتها وجمالها، والدلالة على ذلك كثيرة فنحن نعجب بنور القمر أكثر من إعجابنا بنور الشمس، وما هذا إلا لأن نوره أكثر إبهاما وأوفر غموضا، وكذلك نحن نعجب بالمناظر الطبيعية تتراءى لنا في ثياب أضواء الفجر الغامضة، أكثر من إعجابنا بها وهي متبرجة في أضواء الهاجرة، ونحن أيضا لا نطلب في الموسيقى انكشافا ولا وضوحا فمشاعرنا تتهيج بالسماع فقط، وليس من الضروري أن نفهمها، بل إن كثيرين يتأذون من فهمها، ويقلقون من وضوحها، والشعر لا يخرج عن بقية الفنون الجميلة، فهو كلما كان أكثر وضوحا، كان أقل قيمة وأدنى درجة لأنه لا ينطق حينئذ إلا بظاهر من القول وضحل من التفكير، نعم هناك مسألة مهمة يجب أن يأخذ الأدباء لأنفسهم الحذر من شرها، وذلك أن كثيرا من شعرائنا افسدوا أذواقنا في حكمنا على الشعر فجعلونا نضن أن بين الجمال والوضوح علاقة وثيقة، لأننا نجدهم يحسون بالضوء أكثر من إحساسهم باللون أو أي شيء آخر، فإذا وصفوا لنا روضا لم يشاءوا أن يصفوه إلا والسماء مصحية، وقرص الشمس يلتهب التهابا، وقلما تحدثوا بشيء عن هذا الروضإذا تنفس الصبح أو بزغ القمر، ولو تدبر شعراؤنا لعرفوا أن الجمال لا يبدوا عاريا مكشوفا أمام العيون، وإنما يتخذ دائما سرابيل تقيه شر الوضوح والابتذال سواء في الطبيعة، أو في الشعر، أو في أي شيء آخر.