اللذة السلبية، أعني تلك اللحظات التي غرق فيها في السبات، فغاب عن الوعي، واطرح أعباء الحياة، وتخلص من نير الشعور
ولعل من هذا كان حظ الإنسان من الآلام النفسية يتناسب مع مبلغ حدة شعوره ودقة إحساسه طرداً وعكساً، فإن ذا الحس المرهف أشد حيوية من غيره. والمشاهد أن أشد الناس تمتعاُ بالحياة هم أقلهم حظاً من التفكير والإحساس، لأنهم إلى الموت أقرب منهم إلى الحياة. ومن قديم قيل:
والعيش خير في ظلا ... ل النوك ممن عاش كدا
غير أنني أخشى إذا تمشيت مع هذه النظرية أن أنحدر إلى القول بأن الموت هو السعادة الأبدية
اللذة والألم
هل تحسب أن بائع العطور يستشعر ما تستشعر أنت لها من رائحة زكية؟ إن الإنسان ليجلس في بستان برهة من الزمان، فتصاب أعصاب حاسمة شمه بالشلل، حتى ما يفرق بين ورد وريحان، أو فل وياسمين
هذا مثل مادي يبين لنا تصريف اللذة والألم في الحياة، فالمنظر الجميل إذا أدمنت التحديق فيه أصبح مألوفاً عادياً لا يحرك مشاعرك؛ والطعام الشهي إذا أكثرت تناوله فقد جاذبيته، بل قد يصل إلى درجة تعافه معها النفوس. ولقد يظفر الموظف بإجازة يوم فيشعر بغبطة لا حد لها، ثم يسامح بعد ذلك شهورا فتفقد المسامحة سحرها، بل إن الألم الذي يستثقل وطأته الإنسان يتسم به الجسم على مر الأيام، ويخف حمله بطول المران عليه
إذن لابد من ألم الجوع والظمأ حتى يستشعر الإنسان لذة الشبع والري، ولابد من جحيم الفراق حتى يشعر بنعيم الوصال، ولابد من حرارة العمل حتى يحس برد الراحة، بل لابد من المرض حتى يدرك الإنسان أنه صحيح معافى. بعد هذا نستطيع أن نقول بملء الفم: إن الألم شرط في إحداث اللذة، وإن النعيم المحض لم يكتب لمخلوق في هذه الحياة، وإنما تمني به الكتب المقدسة البررة الصالحين في دار الخلود. ومن هنا التمس الناس السعادة من قديم الزمان في كل مكان فأعياهم التماسها، لأنهم يبغونها صرفاً غير مشوبة بشائبة، ولم يفطنوا إلى أن الألم شرط في إحداثها، ومقوم من مقوماتها